الحرية الإيجابية و الحرية السلبية

مختارات من كتاب " مقالات في الحرية " لإشعيا برلين

ـ إذا كانت الحرية – بمعناها السلبي – تعني ألا يعوق الآخرون الانسان من فعل كل ما يرغب فيه ، تكون عندها إحدى الطرق لبلوغ مثل هذه الحرية تكمن في كبت رغبات الانسان ، و لو كانت تقاس درجات الحرية بإشباع الرغبات لكان باستطاعتي أن أزيد الحرية من خلال كبت الرغبات بنفس القدر الذي أزيدها فيه من خلال إشباع الرغبات ، و لكان بمقدوري أن أجعل الناس أحرارا ( و من ضمنهم أنا نفسي ) من خلال تقييدهم بشرط التخلي عن الرغبات الأساسية التي صممت على ألا ألبيها ، فبدلا من مقاومة الضغوط التي تنيخ علي، أو إزالتها يمكنني أن " أضفي عليها مسحة ذاتية " و هذا ما يتوصل إليه ( أبيكتيتوس ) حين يدعي بأنه كعبد أكثر حرية من سيده ، فمن خلال تجاهل العقبات و نسيانها و السمو عليها و عدم إحساسي بها يمكنني أن أبلغ الطمأنينة و الصفاء ، عندما كانت المنية توافي الحكيم الرواقي ( بوزيدونيوس ) بسبب مرض عضال قال : " إفعل أسوأ ما يحلو لك أيها الألم ، لا يهمني مهما فعلت ، و لا يمكنك أن تجعلني أكرهك " و بذلك قبل بواقعه و بلغ الوحدة مع الطبيعة التي جعلت من ألمه ليس أمراً محتوماً فحسب بل شيئ منطقي أيضا

 

ـ إن الحرية السلبية للانسان يعتمد ، إذا جاز التعبير ، على أية أبواب مفتوحة أمامه، و ما عددها ، و على أي منظور تنفتح ، و مقدار انفتاحها ، و لكن لا يجب أن نغالي في هذه الصيغة أكثر مما يجب لأن الأبواب ليس كلها على أهمية متساوية نظراً لأن الطرقات التي تنفتح عليها تتفاوت فيها الفرص المتاحة ، و بالنتيجة فإن مشكلة كيفية زيادة الحرية ككل في ظروف خاصة ، و كيفية توزيعها ( و بخاصة في موافق يؤدي فيها انفتاح باب واحد ـ و هذه هي الحالة التي لا تتبدل تقريباً ـ الى ارتفاع بعض الحواجز و انخفاض بعضها الآخر أيضاً )

ـ إن التوكيد على الحرية السلبية يترك عادة منافذ أكثر للأفراد أو للجماعات كي يسيروا في إثرها ، في حين أن الحرية الايجابية تفتح عادة منافذ أقل و لكن بأسباب أفضل أو موارد أكبر للتحرك في هذه المنافذ ، فهاتان الحريتان قد تتعارضان و قد لا تتعارضان ، لقد أغضبت بعض نقادي فكرتي من أن الانسان ، بناء على وجهة النظر هذه قد تتوفر له حرية " سلبية " في ظل طاغية واهن أو مستهتر أكثر مما تتوفر له في ظل ديمقراطية ناشطة تعتمد المساواة و لكنها غير متسامحة ، و لكن هنالك قناعة واضحة كان من الممكن أن توفر لسقراط قسطاً أكبر من الحرية ـ على الأقل حرية الحديث ، بل وحرية الفعل ـ لو أنه هرب كأرسطو من أثينا بدلا ًمن أن يتقبل القوانين ، جائرة أو منصفة سواء بسواء ، التي سنّها و طبقها زملاؤه المواطنون في تلك الديموقراطية التي كان له فيها ، و تقبل طائعاً ، عضوية كاملة ، و بشكل مماثل قد يهجر المرء دولة ديموقراطية قوية تتوفر فيها " مشاركة " حقيقية حين تصبح الضغوط الاجتماعية أو السياسية خانقة جداً بالنسبة إليه ، الى مناخ لا تقوم فيه إلا مشاركة مدنية أقل و لكنه يوفر للمرء تفرداً أكثر ، الى حياة أقل ديناميكية و أقل مشاركة جماعية شاملة ، أقل قطيعية و لكنها أقل مراقبة أيضاً

ـ إن حقيقة إيراد بعض الأمثلة عن الحرية السلبية و بخاصة حين تتوافق مع السلطات و الواجبات ـ كحرية الآباء مثلا او المعلمين في تقرير تربية الأطفال ، أو حرية أرباب العمل في استغلال عمالهم او طردهم أو حرية مالكي العبيد في التصرف بعبيدهم ، أو حرية المعذب في إلحاق الأذى بضحاياه ، التي قد لا تكون مرغوبة تماماً في حالات عديدة و التي يجب تقليصها او لجمها في أي مجتمع معقول أو محترم ، هذه الحقيقة لا تقلل من اعتبار هذه الأمثلة حريات حقيقة

ـ ثمة حرية ما قد تجهض حرية أخرى ، و حرية ما قد تعيق الشروط أو تفشل في خلق الشروط التي تجعل من حريات أخرى أموراً ممكنة أو من قدر أكبر من الحرية شيئاً ممكناً ، أو التي تفضي الى حرية لعدد أكبر من الناس ، و قد تتعارض الحرية الايجابية مع الحرية السلبية ، و قد لا تكون حرية الفرد أو حرية الجماعة على تناسب تام مع المستوى الكامل المطلوب للمشاركة في الحياة العامة بمتطلباتها من تعاون و تضامن و أخوة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

دعوة للمشاركة

موقع الأيهم صالح يرحب بالمشاركات والتعليقات ويدعو القراء الراغبين بالمشاركة إلى فتح حساب في الموقع أو تسجيل الدخول إلى حسابهم. المزيد من المعلومات متاح في صفحة المجتمع.