قتله الموساد الصهيوني مع رفيقيه كمال عدوان وأبو يوسف النجار في بيروت
كمال ناصر.. الشاعر الشهيد
بقلم: كريم مروة
من أجمل وأرقى ما يوصف به الشاعر الفلسطيني الشهيد كمال ناصر أن أحداً من أقرب أصدقائه إليه، من اللبنانيين والعرب خصوصاً، لم يكن يعرف انتماءه الديني. وكنت واحداً من هؤلاء، لو لم ألتقِ عنده بصحبة الأديبة اللبنانية صديقتنا المشتركة هدى زكا، وأعرف يومذاك أنه أرثوذكسي الانتماء الديني. ذلك أن كمال الذي انتسب منذ وقت مبكر (1950) إلى حزب البعث، وشارك في تشكيل أول تنظيم بعثي في فلسطين، كان علمانياً، وكانت علمانيته قد دخلت في وعيه منذ شبابه الباكر. حتى غسان تويني، صديقه الحميم، أخبرني أنه لم يعرف بانتماء كمال المسيحي الأرثوذكسي
إلاَّ بعد استشهاده، حين نشرت الصحف، ومنها جريدة “النهار”، تفاصيل سيرته ونشأته وسيرة عائلته وانتماءاتها السياسية والدينية. وكان كمال، في سلوكه الوطني الديمقراطي، نموذجاً راقياً للمثقف الفلسطيني، في المرحلة الجديدة التي انتقلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد برزت سمات المثقف الوطني الديمقراطي عند كمال في ممارسته للدور الذي أنيط به كأحد القادة البارزين في منظمة التحرير الفلسطينية، بعدما اتخذت المنظمة مقرها الأساسي في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث استقرَّ هو فيها، واحداً من أبرز الوجوه في حياتها السياسية والثقافية والنضالية.
في بيروت، عاصمة العواصم العربية، في الثقافة والإعلام وفي السياسة وفي الكفاح الوطني والديمقراطي، قديماً وحتى في الزمن العربي البائس الراهن، تعرفت إلى كمال ناصر وصرنا أصدقاء. وما أكثر الأصدقاء الذين كان كمال يعتز بصداقتهم، وكانوا يعتزون بصداقته. كانت لقاءاتي مع كمال متعددة الوجوه والاهتمامات. بعض تلك اللقاءات كان ثقافياً. وكانت اهتماماتي واهتماماته تشدنا إلى الانخراط في شؤونها. ذلك أن كمال كان شاعراً منذ الشباب الأول. وكان شعره متعدداً، أي أنه كان يتناول القضية الوطنية الفلسطينية والقضايا القومية العربية بعامة، ويتناول، في الوقت عينه، كل ما يخطر للشاعر ببال، وكل ما تثيره عنده الحياة اليومية، والأحاسيس العامة والشخصية. فكان، مثل كثير من شعراء فلسطين القدامى والجدد، شاعر كل قضايا الحياة، وشاعر الهموم الإنسانية الفردية كذلك. وكان من رفاق كمال في الإقامة في لبنان من شعراء فلسطين محمود درويش ومعين بسيسو وعز الدين مناصرة وآخرون. وكانت تربطني بالجميع صداقة حميمة أعتز بها، إذ هي شكلت جزءاً من تكويني في ما أنا فيه الآن بعد سنوات العمر الطويلة التي انقضت. إلاَّ أن لقاءاتي مع كمال ناصر لم تنحصر، ولم يكن من الممكن أن تنحصر، في الشأن الثقافي، هو الشاعر وأنا الشغوف بالأدب والفن وبكل ما له صلة بالثقافة، منذ شبابي الباكر، من دون أن أكون شاعراً ولا فناناً، ولا مبدعاً في أي ميدان من ميادين الأدب والفن، إلاَّ إذا كانت الثقافة والمعارف الثقافية ومتابعة الاهتمام بالنشاط الثقافي تعطي لصاحبها حق الانتماء إلى عالم المثقفين.
وُلد كمال ناصر في عام 1924 في مدينة غزة. وكان أصغر إخوته. وتفتحت عيناه منذ الطفولة على النضال الذي كان يخوضه شعبه من أجل الاستقلال. وكان أول لقاء له مع ذلك النضال يوم انفجرت ثورة 1936 إذ كان يقوم مع بعض أترابه بمساعدة الثوار في بعض ما كان يمكن للأطفال أن يقوموا به، مثل نقل بعض المؤونات إليهم في أماكن وجودهم. وذات يوم وقع في قبضة شرطيين بريطانيين، فاعتقلاه بتهمة المشاركة في تظاهرة، وقاداه إلى أبيه، مساعد الحاكم آنذاك، وهما يجهلان علاقة المحكوم عليه بذلك الحاكم.
تابع دراسته في مدرسة بيرزيت، وظلَّ يتطور معها وهي تنتقل من مدرسة إلى كلية ثم إلى جامعة، في عام 1942 تابع دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت. وتحول في الجامعة إلى مشروع قائد سياسي. إذ بدأ يشارك في تنظيم الإضرابات والتظاهرات وإلقاء الخطب الحماسية ضد الانتداب البريطاني، الأمر الذي عوقب عليه بفصله من الدراسة فصلاً دراسياً واحداً. وفي عام 1945 نال كمال إجازته في العلوم السياسية، وعاد إلى فلسطين، ومارس التدريس فور تخرجه في مدرسة في القدس. ولكنه لم يستمر طويلاً في مهنة التدريس، لأنه اختلف مع صاحب المدرسة. ذلك أن كمال كان يجب أن يمزج بين تدريس المادة المخصصة لساعة التدريس ودروس في الوطنية كان يلقن بها تلامذته. ثم انتقل بعد تركه التدريس في القدس إلى دمشق حيث مارس تعليم اللغة الإنجليزية والعمل في الصحافة. وقام خلال وجوده في دمشق بمحاولة لم تكتمل لدراسة المحاماة في جامعة دمشق.
أصدر في عام 1949 مع هشام النشاشيبي وعصام حماد جريدة “الجيل الجديد”. ودخل، بسبب مواقفه السياسية، السجن مرات عدة. وفي عام 1950 شارك في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في رام الله. ثم عمل مديراً لتحرير مجلة “الميثاق” التي كان يصدرها في عمان شفيق رشيدات في عام ،1950 وهي ناطقة بلسان الجبهة الوطنية المعارضة. في عام 1951 انتقل إلى بيروت وبقي فيها ستة أشهر، غادرها بعد ذلك إلى دمشق. ثم ذهب من دمشق إلى الكويت للعمل، ثم عاد إلى بيروت. وفي عام 1954 ترشح للانتخابات عن الضفة الغربية في البرلمان الأردني. فأسقط بقرار من السلطات مع آخرين من أقرانه الوطنيين. وعاد للعمل في الصحافة. فعمل محرراً في جريدة “فلسطين”. ثم تابع نشاطه السياسي فترشح للانتخابات مرة ثانية في عام ،1956 باسم حزب البعث، ونجح، وأصبح نائباً مع عدد آخر من النواب الوطنيين. وكان بينهم اثنان من الحزب الشيوعي هما فائق وراد ويعقوب زيادين. وشكلت حكومة وطنية، في أعقاب تلك الانتخابات، كان من أهم قراراتها إلغاء المعاهدة البريطانية. لكن الوضع لم يلبث أن انقلب إلى نقيضه.وسادت موجة من الفوضى ودخل فيها عدد من النواب والقيادات الوطنية السجون لمدة طويلة. أما كمال فهرب، أولاً إلى بيرزيت، ثم إلى نابلس، ثم إلى دمشق في عام 1958. وظلَّ يتنقل من حال إلى حال، بين لحظة راحة وحبور وشعور بالانتصار ولحظة خيبة، وبين سجن هنا وإقامة جبرية هناك. وكانت تنقلاته تلك تتم خلال فترة الوحدة المصرية السورية، ثم في مرحلة ما بعد الانفصال. وكانت المرحلتان مملوءتين بالصراعات داخل حزب البعث، وداخل الأحزاب القومية الأخرى. ثم استقرَّ به المقام، فيما بعد، مؤقتاً في بيروت في عام ،1966 لينتقل منها بعد ذلك إلى باريس في ذلك العام. وكانت باريس، بالنسبة إليه، المنفى الصعب، برغم ما في باريس من مغريات. ولم يبقَ طويلاً فيها. إذ غمره إحساس عميق من نوع ذلك الإحساس الذي يشعر به مواطن مُكره على مغادرة وطنه. وكانت الأبيات التالية من أجمل وأقسى التعابير عن معاناته. إذ يقول في إحدى قصائده:
باريس لا تدري بأني ها هنا
أجتر تاريخي وأستجدي الفرار
دوّامتي اتسعت وعمَّقها
الأسى والاجترار
ويقول في قصيدة أخرى واصفاً وضعه المأساوي أمام جمال باريس:
مسترخياً حول تماثيلها
أصغي إلى الحسن ومن ضوّأه
وسرت في أحشائها طاوياً
جرحي معي أخاف أن أنكأه
ويقول في قصيدة ثالثة راثياً نفسه في أجواء باريس:
قد عدت يا باريس قد عدت
أجتر أيامي التي عشتُ
باريس يا قديسة سقطت
حالي كحالك إذ تساقطتُ
ورجعت يا باريس يحملني
جرح بدنياه تمزقتُ
سأمان، لا أهل ولا وطن
حيران، لا ظل ولا بيتُ
وطني الذي مات الوجود به
فهرسته لما به متُ
بعد احتلال عام 1967 ذهب كمال إلى فلسطين كلها، ومارس بعضاً مما كان يمكن أن يمارسه وطني مخذول مقهور في وطن وقع كله تحت الاحتلال. كما مارس بعضاً من مقاومة مع إخوانه هناك. لكن عيون المحتلين سرعان ما اكتشفته مقاوماً أو مشروع مقاوم، فاعتقلته قوات الشرطة “الإسرائيلية” مع صديقه ابراهيم بكر وألقتهما في الأراضي الأردنية. وفي الأردن دخل فوراً في “لجنة إنقاذ القدس” كشكل من أشكال النضال يجنِّد فيه الوطنيون الفلسطينيون أشقاءهم العرب وأصدقاءهم في العالم في الدفاع عن أرض فلسطين وعن حق شعبها في هذه الأرض. وزارت اللجنة بلداناً أوروبية عديدة. وكان كمال عضواً في تلك الوفود، محاضراً مدافعاً عن أرض آبائه وأجداده. وبرزت مزاياه الكفاحية والقيادية، فاختير ليكون عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما انتقلت القيادة في المنظمة إلى ياسر عرفات، بعد نشوء المقاومة الفلسطينية ودخول الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة جديدة متقدمة. إذ انتقلت القضية الفلسطينية إلى أيدي أصحابها من الفلسطينيين الذين كانوا قد بدأوا منذ عام 1965 يمارسون الكفاح المسلح لاستعادة أرضهم المغتصبة. (تفاصيل هذه المعلومات عن سيرة كمال ناصر انتقيتها من كتاب الدكتور سهيل سليمان المخصص للشاعر). ثم صار كمال ناصر واحداً من القادة الجدد للحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية. وشغل في اللجنة التنفيذية للمنظمة مركزاً مهماً هو مركز الناطق الإعلامي باسمها، بمنزلة وزير إعلام. ولم يكن في ذلك الحين من هو أجدر من كمال ناصر، مثقفاً وصحافياً متمرساً، وشاعراً ومناضلاً سياسياً محترفاً، للقيام بذلك الدور.
كان عام 1969 هو أول لقاء لي مع كمال ناصر. ولم أكن أعرفه من قبل. وكان ذلك في عمان، حين ذهبت في مطلع شهر ابريل/ نيسان من ذلك العام في عداد وفد من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني للقاء ياسر عرفات، صديقي القديم منذ مطالع الخمسينات، وللقاء قيادة حركة فتح وقيادات المنظمات الفلسطينية الأخرى. وكنت قبل ذلك التاريخ، في شهر يناير/ كانون الثاني من العام ذاته، قد شاركت مع اثنين من رفاقي في قيادة الحزب الشيوعي في المؤتمر العالمي لنصرة الشعوب العربية الذي عقد في القاهرة، وكانت القضية الفلسطينية محوره الأساسي. وكان لقائي بقيادة المقاومة الفلسطينية في الناقورة لقاء عابراً، في زحمة النقاشات الصعبة التي سادت ذلك المؤتمر، حول موقف المقاومة الفلسطينية من موضوع الدولة الفلسطينية، وحول موقفها من الاقتراحات المعروضة لحل القضية الفلسطينية التي كان الرئيس عبد الناصر محور الاتصالات الدولية بشأنها، تحت شعار إزالة آثار العدوان، وتطبيقاً للقرار 242. وكان من ضمن تلك النقاشات الموضوع المتعلق بموقع القضية الفلسطينية، وموقع الثورة الفلسطينية، في السياسات العربية العامة، أنظمة حكم وقوى سياسية عربية من الاتجاهات كافة.
كان استقبال أبو عمار لي في عمان استقبالاً حاراً. إذ كان أول لقاء حقيقي بيننا بعد أن أصبح قائداً لفتح، وقبل أن يصبح رسمياً رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان معه في ذلك اللقاء كل من كمال ناصر وكمال عدوان وخليل الوزير (أبو جهاد) وخالد الحسن وأبو يوسف النجار. وكانت لنا مع الإخوة في قيادة فتح نقاشات مطوَّلة حول كل القضايا. كما كانت لنا لقاءات ونقاشات مع جورج حبش ونايف حواتمة ويحيى حمودة، الذي كان لا يزال حتى ذلك الحين الرئيس الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفاً لأحمد الشقيري الذي استقال من منصبه غداة حرب يونيو/ حزيران والهزيمة التي أسفرت عنها.
كان ذلك اللقاء الأول مع كمال ناصر ناقصاً. وكان لا بد من استكماله لكي يتم التعرف إلى شخصيته في صورة أعمق، ولكي تتوافر الشروط لبناء صداقة حميمة بيننا. ولم يطل الوقت. فبعد أن انتقلت الثورة الفلسطينية من عمان إلى بيروت، في أعقاب أحداث سبتمبر/ايلول بين منظمات المقاومة والسلطة الأردنية، وانتهت بإخراج القيادات الفلسطينية من الأردن، وصار بالإمكان التعرف جيداً، ليس إلى كمال ناصر وحسب، بل إلى قيادات الثورة الفلسطينية كلها. وكانت الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، وبأحزابها المختلفة، أول المرحِّبين بانتقال الثورة الفلسطينية وانتقال أركان قياداتها إلى لبنان.
كانت إطلالة كمال ناصر بهية من موقعه مسؤولاً عن الإعلام في منظمة التحرير، ومتحدثاً لبقاً ومرناً وظريفاً ومثقفاً باسمها. وكان يحضر اجتماعات وزراء الإعلام كواحد منهم، أي كوزير من دون صفة الوزير. ثم صار لفترة من الزمن رئيساً للجنة الدائمة للإعلام العربي. ولم تكن مهمته سهلة، في خضم الصراعات والسجالات داخل منظمة التحرير، وداخل فصائلها، وداخل كل فصيل من تلك الفصائل، فضلاً عن السجالات والصراعات بين البلدان العربية، حول من هو صاحب القرار الأول في تبني القضية، وحول من هو صاحب القرار الأول في احتضان المقاومة، وفي تحديد سياساتها.
إلا أن الحديث المطول عن كمال ناصر السياسي مرهق له ومرهق للباحث وللقارئ في آن. ذلك أن كمال ناصر لم يكن سياسياً وحسب، كما تشير إلى ذلك سيرته. بل هو كان، بإرادته أحياناً، ورغماً عنه أحياناً أخرى، مثقفاً بامتياز، مثقفاً واسع الثقافة، وشاعراً وناقداً وقصاصاً، وصاحب روح مرحة وشفافة. كان أنيق المظهر وأنيقاً في حديثه. ومن أطرف ما كان يردده، في الحديث عن الشجاعة في المقاومة: أنا لست عنترة بن شداد ! ثم يفتح وثيقة الهوية، ليؤكد أن اسمه كمال ناصر وليس عنترة. ولم تكن لقاءاتي معه سياسية كلها، بل كانت تتخللها جلسات أدبية، برفقة أصدقاء مشتركين. وكان يقرأ لنا بعضاً من شعره، ما هو محسوب في خانة الشعر السياسي، وما هو شعر وجداني، غزلي وتأملي. وأعترف بأنني لم أقرأ منوعات شعره إلاَّ في هذه الآونة التي انخرطت فيها في الكتابة عنه، وفي إحياء الذاكرة التي كثيراً ما يستعيد المرء باستعادتها لحظات جميلة وحزينة لا تنسى. قرأت مختارات من شعره في كتابين صدرا عنه: الأول هو للدكتور سهيل سليمان والثاني هو للدكتورة شهناز مصطفى ستيتية. وهما كتابان اجتهد مؤلفاهما في إعطاء صورة متكاملة، أو شبه متكاملة، عن كمال ناصر، في جوانب شخصيته المتعددة، منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده. ومن خلال جولة سريعة في مختارات شعره التي حفل بها الكتابان المشار إليهما، استطعت أن أتأكد مما كان قد تكوَّن عندي عن كمال الشاعر والإنسان. وواضحة معاناته في كل أشعاره، معاناته المتعددة المصادر. فهو كان مهموماً منذ مطلع شبابه بقضية شعبه، أي منذ أن شهد انفجار ثورة ،1936 وصولاً إلى نكبة عام ،1948 وما بعدها من هزائم ونكسات ونكبات، مروراً بالحال الذي كان عليه شعبه، داخل السجن “الإسرائيلي”، وفي ظل الاحتلال، وفي مخيمات القهر والإذلال في البلدان العربية، ثم في ظل الصراعات الفلسطينية الفلسطينية والفلسطينية العربية. ولكن معاناته الوطنية العامة تلك، بمصادرها المختلفة، لم تكن وحدها المعاناة التي كانت سبب عذاباته، والتي يعبر عنها معظم قصائده. بل كانت له معاناته الخاصة الفردية، معاناة الإنسان الذي أحب وفشل، وناضل وقاسى، وتخفّى كثيراً، ودخل السجن كثيراً، وانتصر في معارك سياسية وحزبية وانهزم، وتنقَّل في المنافي من بلد إلى آخر، ثم في فرنسا التي أحبَّها، وضاق ذرعاً بوجوده منفياً فيها. وهي جميعها حالات عذاب عبَّر في شعره عنها، من دون أن يشعر لحظة واحدة أن ما قاله كان يكفي للتعبير الكامل عنها.
شخصية كمال ناصر تستعاد، بالنسبة لمن يعرفونه، من أجل أن تستعاد معه حقبة صعبة، ملأى برومانسية النضال وبفرحه، وملأى، في الوقت عينه، بالعذابات والمرارات، التي ولدتها الهزائم، ورافقتها ضبابية الرؤى عند الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية العربية بكل فصائلها، واقترنت باستبداد الأنظمة وبفسادها وبتخلفها، وبكثرة المؤامرات التي تمتد من “إسرائيل”، لتصل إلى الدول الكبرى التي ما تنفك جميعها، بنسب متفاوتة، تعذب الشعب الفلسطيني وتقهره، وتتركه فريسة عملية إبادة منظمة يمارسها العدو الصهيوني المهووس بعنصرية قل نظيرها.
وفي السياق من استعادة ذكرى الشاعر الشهيد لن أنسى واحدة من أحلى لقاءاتنا، يوم حضر المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي اللبناني ممثلاً منظمة التحرير الفلسطينية، وجلسنا معاً في منصة الرئاسة، هو ولطفي الخولي وأنا. وكان ذلك في يناير/ كانون الثاني من عام 1972.
طابت ذكراك يا كمال ناصر.
مختارات
أختار فيما يلي بعضاً من نماذج أشعاره، في شكل سيكون مبتسراً، بالتأكيد، لكنه اختيار يشير، ولو بحدود، إلى ما ذهبت إليه في تقديري لمشاعره التي اختلط فيها الخاص بالعام، الإنساني الفردي بالوطني العام الذي يشارك فيه مشاعر شعبه المعذَّب. يقول بعد خروجه من أحد سجونه:
فما السجن إلاَّ احتقار الأملْ
وما المجد إلاَّ انتصار الفشلْ
وما النصر إلاَّ عذاب السنينْ
ثم يستبدل باليأس الأمل فيقول:
فلا تهدئي واعصفي يا رياحْ
فكل سجين بألف جناحْ
سينشقُّ عن قيده في الصباحْ
لينشر في الشعب حق الكفاحْ
ويسلي نفسه باعتباره رائد سجون ينتقل من سجن إلى آخر:
قد عدت لا أبالي
تشتاقني الزنزانَهْ
في دربها فضول
لا أدعي نسيانَهْ
سلخت فيه عمراً
مناجيا شيطانَهْ
يحملني بعيداً
في رحلة سكرانَهْ
أرى بها بلادي
دروبها ظمآنَهْ
وإذ يتذكَّر مجزرة دير ياسين يقول بأسى ومرارة:
دير ياسين والدماء الغوالي
لم يزل في العروق منها شقاء
والضحايا الأطفال كل صغير
بين جفنيَّ دمعة خرساء
فلذات تصيح عبر خيالي
وتنادي بأننا أبرياء
كل يوم...ضحية وشهيد
عربي وطعنة واعتداء
لكنه يقول حين يحاور الحبيب، في لحظة حزن ومرارة وفشل:
سأنسى بأني حملتك طفلاً
جميلاً شهيا
سأنساك في موجة الذكريات
وأخنق في الصدر كل نداء
http://www.alkhaleej.ae/articles/show_article.cfm?val=123200
كمال ناصر.. الشاعر الشهيد
بقلم: كريم مروة
من أجمل وأرقى ما يوصف به الشاعر الفلسطيني الشهيد كمال ناصر أن أحداً من أقرب أصدقائه إليه، من اللبنانيين والعرب خصوصاً، لم يكن يعرف انتماءه الديني. وكنت واحداً من هؤلاء، لو لم ألتقِ عنده بصحبة الأديبة اللبنانية صديقتنا المشتركة هدى زكا، وأعرف يومذاك أنه أرثوذكسي الانتماء الديني. ذلك أن كمال الذي انتسب منذ وقت مبكر (1950) إلى حزب البعث، وشارك في تشكيل أول تنظيم بعثي في فلسطين، كان علمانياً، وكانت علمانيته قد دخلت في وعيه منذ شبابه الباكر. حتى غسان تويني، صديقه الحميم، أخبرني أنه لم يعرف بانتماء كمال المسيحي الأرثوذكسي
إلاَّ بعد استشهاده، حين نشرت الصحف، ومنها جريدة “النهار”، تفاصيل سيرته ونشأته وسيرة عائلته وانتماءاتها السياسية والدينية. وكان كمال، في سلوكه الوطني الديمقراطي، نموذجاً راقياً للمثقف الفلسطيني، في المرحلة الجديدة التي انتقلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد برزت سمات المثقف الوطني الديمقراطي عند كمال في ممارسته للدور الذي أنيط به كأحد القادة البارزين في منظمة التحرير الفلسطينية، بعدما اتخذت المنظمة مقرها الأساسي في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث استقرَّ هو فيها، واحداً من أبرز الوجوه في حياتها السياسية والثقافية والنضالية.
في بيروت، عاصمة العواصم العربية، في الثقافة والإعلام وفي السياسة وفي الكفاح الوطني والديمقراطي، قديماً وحتى في الزمن العربي البائس الراهن، تعرفت إلى كمال ناصر وصرنا أصدقاء. وما أكثر الأصدقاء الذين كان كمال يعتز بصداقتهم، وكانوا يعتزون بصداقته. كانت لقاءاتي مع كمال متعددة الوجوه والاهتمامات. بعض تلك اللقاءات كان ثقافياً. وكانت اهتماماتي واهتماماته تشدنا إلى الانخراط في شؤونها. ذلك أن كمال كان شاعراً منذ الشباب الأول. وكان شعره متعدداً، أي أنه كان يتناول القضية الوطنية الفلسطينية والقضايا القومية العربية بعامة، ويتناول، في الوقت عينه، كل ما يخطر للشاعر ببال، وكل ما تثيره عنده الحياة اليومية، والأحاسيس العامة والشخصية. فكان، مثل كثير من شعراء فلسطين القدامى والجدد، شاعر كل قضايا الحياة، وشاعر الهموم الإنسانية الفردية كذلك. وكان من رفاق كمال في الإقامة في لبنان من شعراء فلسطين محمود درويش ومعين بسيسو وعز الدين مناصرة وآخرون. وكانت تربطني بالجميع صداقة حميمة أعتز بها، إذ هي شكلت جزءاً من تكويني في ما أنا فيه الآن بعد سنوات العمر الطويلة التي انقضت. إلاَّ أن لقاءاتي مع كمال ناصر لم تنحصر، ولم يكن من الممكن أن تنحصر، في الشأن الثقافي، هو الشاعر وأنا الشغوف بالأدب والفن وبكل ما له صلة بالثقافة، منذ شبابي الباكر، من دون أن أكون شاعراً ولا فناناً، ولا مبدعاً في أي ميدان من ميادين الأدب والفن، إلاَّ إذا كانت الثقافة والمعارف الثقافية ومتابعة الاهتمام بالنشاط الثقافي تعطي لصاحبها حق الانتماء إلى عالم المثقفين.
كانت لقاءاتنا السياسية، في ذلك الحين، تحتل المكان الأكبر، وتكاد تحتكر العلاقة بيننا، لولا نزعتنا المشتركة إلى البقاء في عالم الثقافة الجميل الراقي تحت كل الظروف. لكن كمال كان، في كل تلك اللقاءات السياسية، حريصاً، في تعامله مع أصدقائه من اللبنانيين في الشأنين الفلسطيني واللبناني، أن يكون فلسطينياً ولبنانياً في آن. ذلك أنه كان، برغم انتمائه القديم إلى حزب البعث، وبقائه أميناً للفكر القومي الذي بشر به ذلك الحزب منذ أواخر الأربعينات، حريصاً على التفاعل مع الاتجاهات الفكرية الأخرى، التي كان الشيوعيون اللبنانيون خصوصاً، والشيوعيون العرب عموماً، ينتمون إليها، ومرجعيتها كانت الماركسية بمدارسها المختلفة. كان يعرف جيداً كيف يوفق بين فكره القومي والفكر الماركسي المختلف.وكان في موقفه ذاك يتمايز عن كثير آخرين من إخوانه وزملائه في قيادة حركة فتح وفي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يكتسب تلك المكانة التي اكتسبها خلال فترة وجوده القصيرة في بيروت في مطالع السبعينات، قبل أن تنتهي حياته اغتيالاً على يد مجموعة من الموساد “الإسرائيليين”، حين تمكنت تلك المجموعة من التسلل ليلاً إلى العاصمة بيروت، في عام ،1973 واقتحام منازل ثلاثة من قادة منظمة التحرير هم كمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان وقتلهم، من دون أن يشعر بتلك العملية أحد من حراس المدينة. وكان أولئك الحراس في ذلك الحين مشكلين من جيوش عدة: جيش الدولة اللبنانية وجيش الثورة الفلسطينية ونواة جيش الحركة الوطنية اللبنانية، الذي كان لا يزال قيد التكوين. وكان قائد تلك الحملة السوداء إيهودا باراك نفسه، الذي صار رئيساً لحزب العمل مرة، ورئيساً لحكومة العدو الصهيوني مرَّة، ووزيراً للخارجية قبل ذلك، وتسلَّم مناصب قيادية عديدة في أجهزة الكيان “الاسرائيلي”. وذات يوم في القاهرة، عندما زارها بصفته وزيراً للخارجية في إحدى الحكومات “الإسرائيلية”، أمام عدد من المثقفين المصريين بينهم لطفي الخولي الذي روى لي ما حصل في ذلك الاجتماع الذين لبّوا دعوة أسامة الباز للقاء ذلك الوزير ومواجهته بالجرائم التي ارتكبها بحق الفلسطينيين، لم يخجل الارهابي باراك من أن يعترف بأنه هو نفسه الذي قاد تلك العملية نحو أولئك القادة الثلاثة، وقاد عمليات أخرى شبيهة بها نحو أهداف فلسطينية أخرى. كانت تلك العملية السوداء واحدة من عمليات استهدفت قبل القادة الثلاثة الأديب والقائد الفلسطيني غسان كنفاني وأنهت حياته. وقد خرجت في تشييع غسان كنفاني جماهير غفيرة. إلاَّ أنَّ تشييع القادة الثلاثة كان حدثاً سياسياً استثنائياً، إذ خرجت بيروت كلها، وفي المقدمة كل قادة البلاد من كل الاتجاهات، معلنة بغضب استنكارها للجريمة وإصرارها على مساندة الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل الحرية والاستقلال.
وُلد كمال ناصر في عام 1924 في مدينة غزة. وكان أصغر إخوته. وتفتحت عيناه منذ الطفولة على النضال الذي كان يخوضه شعبه من أجل الاستقلال. وكان أول لقاء له مع ذلك النضال يوم انفجرت ثورة 1936 إذ كان يقوم مع بعض أترابه بمساعدة الثوار في بعض ما كان يمكن للأطفال أن يقوموا به، مثل نقل بعض المؤونات إليهم في أماكن وجودهم. وذات يوم وقع في قبضة شرطيين بريطانيين، فاعتقلاه بتهمة المشاركة في تظاهرة، وقاداه إلى أبيه، مساعد الحاكم آنذاك، وهما يجهلان علاقة المحكوم عليه بذلك الحاكم.
تابع دراسته في مدرسة بيرزيت، وظلَّ يتطور معها وهي تنتقل من مدرسة إلى كلية ثم إلى جامعة، في عام 1942 تابع دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت. وتحول في الجامعة إلى مشروع قائد سياسي. إذ بدأ يشارك في تنظيم الإضرابات والتظاهرات وإلقاء الخطب الحماسية ضد الانتداب البريطاني، الأمر الذي عوقب عليه بفصله من الدراسة فصلاً دراسياً واحداً. وفي عام 1945 نال كمال إجازته في العلوم السياسية، وعاد إلى فلسطين، ومارس التدريس فور تخرجه في مدرسة في القدس. ولكنه لم يستمر طويلاً في مهنة التدريس، لأنه اختلف مع صاحب المدرسة. ذلك أن كمال كان يجب أن يمزج بين تدريس المادة المخصصة لساعة التدريس ودروس في الوطنية كان يلقن بها تلامذته. ثم انتقل بعد تركه التدريس في القدس إلى دمشق حيث مارس تعليم اللغة الإنجليزية والعمل في الصحافة. وقام خلال وجوده في دمشق بمحاولة لم تكتمل لدراسة المحاماة في جامعة دمشق.
أصدر في عام 1949 مع هشام النشاشيبي وعصام حماد جريدة “الجيل الجديد”. ودخل، بسبب مواقفه السياسية، السجن مرات عدة. وفي عام 1950 شارك في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في رام الله. ثم عمل مديراً لتحرير مجلة “الميثاق” التي كان يصدرها في عمان شفيق رشيدات في عام ،1950 وهي ناطقة بلسان الجبهة الوطنية المعارضة. في عام 1951 انتقل إلى بيروت وبقي فيها ستة أشهر، غادرها بعد ذلك إلى دمشق. ثم ذهب من دمشق إلى الكويت للعمل، ثم عاد إلى بيروت. وفي عام 1954 ترشح للانتخابات عن الضفة الغربية في البرلمان الأردني. فأسقط بقرار من السلطات مع آخرين من أقرانه الوطنيين. وعاد للعمل في الصحافة. فعمل محرراً في جريدة “فلسطين”. ثم تابع نشاطه السياسي فترشح للانتخابات مرة ثانية في عام ،1956 باسم حزب البعث، ونجح، وأصبح نائباً مع عدد آخر من النواب الوطنيين. وكان بينهم اثنان من الحزب الشيوعي هما فائق وراد ويعقوب زيادين. وشكلت حكومة وطنية، في أعقاب تلك الانتخابات، كان من أهم قراراتها إلغاء المعاهدة البريطانية. لكن الوضع لم يلبث أن انقلب إلى نقيضه.وسادت موجة من الفوضى ودخل فيها عدد من النواب والقيادات الوطنية السجون لمدة طويلة. أما كمال فهرب، أولاً إلى بيرزيت، ثم إلى نابلس، ثم إلى دمشق في عام 1958. وظلَّ يتنقل من حال إلى حال، بين لحظة راحة وحبور وشعور بالانتصار ولحظة خيبة، وبين سجن هنا وإقامة جبرية هناك. وكانت تنقلاته تلك تتم خلال فترة الوحدة المصرية السورية، ثم في مرحلة ما بعد الانفصال. وكانت المرحلتان مملوءتين بالصراعات داخل حزب البعث، وداخل الأحزاب القومية الأخرى. ثم استقرَّ به المقام، فيما بعد، مؤقتاً في بيروت في عام ،1966 لينتقل منها بعد ذلك إلى باريس في ذلك العام. وكانت باريس، بالنسبة إليه، المنفى الصعب، برغم ما في باريس من مغريات. ولم يبقَ طويلاً فيها. إذ غمره إحساس عميق من نوع ذلك الإحساس الذي يشعر به مواطن مُكره على مغادرة وطنه. وكانت الأبيات التالية من أجمل وأقسى التعابير عن معاناته. إذ يقول في إحدى قصائده:
باريس لا تدري بأني ها هنا
أجتر تاريخي وأستجدي الفرار
دوّامتي اتسعت وعمَّقها
الأسى والاجترار
ويقول في قصيدة أخرى واصفاً وضعه المأساوي أمام جمال باريس:
مسترخياً حول تماثيلها
أصغي إلى الحسن ومن ضوّأه
وسرت في أحشائها طاوياً
جرحي معي أخاف أن أنكأه
ويقول في قصيدة ثالثة راثياً نفسه في أجواء باريس:
قد عدت يا باريس قد عدت
أجتر أيامي التي عشتُ
باريس يا قديسة سقطت
حالي كحالك إذ تساقطتُ
ورجعت يا باريس يحملني
جرح بدنياه تمزقتُ
سأمان، لا أهل ولا وطن
حيران، لا ظل ولا بيتُ
وطني الذي مات الوجود به
فهرسته لما به متُ
بعد احتلال عام 1967 ذهب كمال إلى فلسطين كلها، ومارس بعضاً مما كان يمكن أن يمارسه وطني مخذول مقهور في وطن وقع كله تحت الاحتلال. كما مارس بعضاً من مقاومة مع إخوانه هناك. لكن عيون المحتلين سرعان ما اكتشفته مقاوماً أو مشروع مقاوم، فاعتقلته قوات الشرطة “الإسرائيلية” مع صديقه ابراهيم بكر وألقتهما في الأراضي الأردنية. وفي الأردن دخل فوراً في “لجنة إنقاذ القدس” كشكل من أشكال النضال يجنِّد فيه الوطنيون الفلسطينيون أشقاءهم العرب وأصدقاءهم في العالم في الدفاع عن أرض فلسطين وعن حق شعبها في هذه الأرض. وزارت اللجنة بلداناً أوروبية عديدة. وكان كمال عضواً في تلك الوفود، محاضراً مدافعاً عن أرض آبائه وأجداده. وبرزت مزاياه الكفاحية والقيادية، فاختير ليكون عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما انتقلت القيادة في المنظمة إلى ياسر عرفات، بعد نشوء المقاومة الفلسطينية ودخول الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة جديدة متقدمة. إذ انتقلت القضية الفلسطينية إلى أيدي أصحابها من الفلسطينيين الذين كانوا قد بدأوا منذ عام 1965 يمارسون الكفاح المسلح لاستعادة أرضهم المغتصبة. (تفاصيل هذه المعلومات عن سيرة كمال ناصر انتقيتها من كتاب الدكتور سهيل سليمان المخصص للشاعر). ثم صار كمال ناصر واحداً من القادة الجدد للحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية. وشغل في اللجنة التنفيذية للمنظمة مركزاً مهماً هو مركز الناطق الإعلامي باسمها، بمنزلة وزير إعلام. ولم يكن في ذلك الحين من هو أجدر من كمال ناصر، مثقفاً وصحافياً متمرساً، وشاعراً ومناضلاً سياسياً محترفاً، للقيام بذلك الدور.
كان عام 1969 هو أول لقاء لي مع كمال ناصر. ولم أكن أعرفه من قبل. وكان ذلك في عمان، حين ذهبت في مطلع شهر ابريل/ نيسان من ذلك العام في عداد وفد من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني للقاء ياسر عرفات، صديقي القديم منذ مطالع الخمسينات، وللقاء قيادة حركة فتح وقيادات المنظمات الفلسطينية الأخرى. وكنت قبل ذلك التاريخ، في شهر يناير/ كانون الثاني من العام ذاته، قد شاركت مع اثنين من رفاقي في قيادة الحزب الشيوعي في المؤتمر العالمي لنصرة الشعوب العربية الذي عقد في القاهرة، وكانت القضية الفلسطينية محوره الأساسي. وكان لقائي بقيادة المقاومة الفلسطينية في الناقورة لقاء عابراً، في زحمة النقاشات الصعبة التي سادت ذلك المؤتمر، حول موقف المقاومة الفلسطينية من موضوع الدولة الفلسطينية، وحول موقفها من الاقتراحات المعروضة لحل القضية الفلسطينية التي كان الرئيس عبد الناصر محور الاتصالات الدولية بشأنها، تحت شعار إزالة آثار العدوان، وتطبيقاً للقرار 242. وكان من ضمن تلك النقاشات الموضوع المتعلق بموقع القضية الفلسطينية، وموقع الثورة الفلسطينية، في السياسات العربية العامة، أنظمة حكم وقوى سياسية عربية من الاتجاهات كافة.
كان استقبال أبو عمار لي في عمان استقبالاً حاراً. إذ كان أول لقاء حقيقي بيننا بعد أن أصبح قائداً لفتح، وقبل أن يصبح رسمياً رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان معه في ذلك اللقاء كل من كمال ناصر وكمال عدوان وخليل الوزير (أبو جهاد) وخالد الحسن وأبو يوسف النجار. وكانت لنا مع الإخوة في قيادة فتح نقاشات مطوَّلة حول كل القضايا. كما كانت لنا لقاءات ونقاشات مع جورج حبش ونايف حواتمة ويحيى حمودة، الذي كان لا يزال حتى ذلك الحين الرئيس الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفاً لأحمد الشقيري الذي استقال من منصبه غداة حرب يونيو/ حزيران والهزيمة التي أسفرت عنها.
كان ذلك اللقاء الأول مع كمال ناصر ناقصاً. وكان لا بد من استكماله لكي يتم التعرف إلى شخصيته في صورة أعمق، ولكي تتوافر الشروط لبناء صداقة حميمة بيننا. ولم يطل الوقت. فبعد أن انتقلت الثورة الفلسطينية من عمان إلى بيروت، في أعقاب أحداث سبتمبر/ايلول بين منظمات المقاومة والسلطة الأردنية، وانتهت بإخراج القيادات الفلسطينية من الأردن، وصار بالإمكان التعرف جيداً، ليس إلى كمال ناصر وحسب، بل إلى قيادات الثورة الفلسطينية كلها. وكانت الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، وبأحزابها المختلفة، أول المرحِّبين بانتقال الثورة الفلسطينية وانتقال أركان قياداتها إلى لبنان.
كانت إطلالة كمال ناصر بهية من موقعه مسؤولاً عن الإعلام في منظمة التحرير، ومتحدثاً لبقاً ومرناً وظريفاً ومثقفاً باسمها. وكان يحضر اجتماعات وزراء الإعلام كواحد منهم، أي كوزير من دون صفة الوزير. ثم صار لفترة من الزمن رئيساً للجنة الدائمة للإعلام العربي. ولم تكن مهمته سهلة، في خضم الصراعات والسجالات داخل منظمة التحرير، وداخل فصائلها، وداخل كل فصيل من تلك الفصائل، فضلاً عن السجالات والصراعات بين البلدان العربية، حول من هو صاحب القرار الأول في تبني القضية، وحول من هو صاحب القرار الأول في احتضان المقاومة، وفي تحديد سياساتها.
إلا أن الحديث المطول عن كمال ناصر السياسي مرهق له ومرهق للباحث وللقارئ في آن. ذلك أن كمال ناصر لم يكن سياسياً وحسب، كما تشير إلى ذلك سيرته. بل هو كان، بإرادته أحياناً، ورغماً عنه أحياناً أخرى، مثقفاً بامتياز، مثقفاً واسع الثقافة، وشاعراً وناقداً وقصاصاً، وصاحب روح مرحة وشفافة. كان أنيق المظهر وأنيقاً في حديثه. ومن أطرف ما كان يردده، في الحديث عن الشجاعة في المقاومة: أنا لست عنترة بن شداد ! ثم يفتح وثيقة الهوية، ليؤكد أن اسمه كمال ناصر وليس عنترة. ولم تكن لقاءاتي معه سياسية كلها، بل كانت تتخللها جلسات أدبية، برفقة أصدقاء مشتركين. وكان يقرأ لنا بعضاً من شعره، ما هو محسوب في خانة الشعر السياسي، وما هو شعر وجداني، غزلي وتأملي. وأعترف بأنني لم أقرأ منوعات شعره إلاَّ في هذه الآونة التي انخرطت فيها في الكتابة عنه، وفي إحياء الذاكرة التي كثيراً ما يستعيد المرء باستعادتها لحظات جميلة وحزينة لا تنسى. قرأت مختارات من شعره في كتابين صدرا عنه: الأول هو للدكتور سهيل سليمان والثاني هو للدكتورة شهناز مصطفى ستيتية. وهما كتابان اجتهد مؤلفاهما في إعطاء صورة متكاملة، أو شبه متكاملة، عن كمال ناصر، في جوانب شخصيته المتعددة، منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده. ومن خلال جولة سريعة في مختارات شعره التي حفل بها الكتابان المشار إليهما، استطعت أن أتأكد مما كان قد تكوَّن عندي عن كمال الشاعر والإنسان. وواضحة معاناته في كل أشعاره، معاناته المتعددة المصادر. فهو كان مهموماً منذ مطلع شبابه بقضية شعبه، أي منذ أن شهد انفجار ثورة ،1936 وصولاً إلى نكبة عام ،1948 وما بعدها من هزائم ونكسات ونكبات، مروراً بالحال الذي كان عليه شعبه، داخل السجن “الإسرائيلي”، وفي ظل الاحتلال، وفي مخيمات القهر والإذلال في البلدان العربية، ثم في ظل الصراعات الفلسطينية الفلسطينية والفلسطينية العربية. ولكن معاناته الوطنية العامة تلك، بمصادرها المختلفة، لم تكن وحدها المعاناة التي كانت سبب عذاباته، والتي يعبر عنها معظم قصائده. بل كانت له معاناته الخاصة الفردية، معاناة الإنسان الذي أحب وفشل، وناضل وقاسى، وتخفّى كثيراً، ودخل السجن كثيراً، وانتصر في معارك سياسية وحزبية وانهزم، وتنقَّل في المنافي من بلد إلى آخر، ثم في فرنسا التي أحبَّها، وضاق ذرعاً بوجوده منفياً فيها. وهي جميعها حالات عذاب عبَّر في شعره عنها، من دون أن يشعر لحظة واحدة أن ما قاله كان يكفي للتعبير الكامل عنها.
شخصية كمال ناصر تستعاد، بالنسبة لمن يعرفونه، من أجل أن تستعاد معه حقبة صعبة، ملأى برومانسية النضال وبفرحه، وملأى، في الوقت عينه، بالعذابات والمرارات، التي ولدتها الهزائم، ورافقتها ضبابية الرؤى عند الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية العربية بكل فصائلها، واقترنت باستبداد الأنظمة وبفسادها وبتخلفها، وبكثرة المؤامرات التي تمتد من “إسرائيل”، لتصل إلى الدول الكبرى التي ما تنفك جميعها، بنسب متفاوتة، تعذب الشعب الفلسطيني وتقهره، وتتركه فريسة عملية إبادة منظمة يمارسها العدو الصهيوني المهووس بعنصرية قل نظيرها.
وفي السياق من استعادة ذكرى الشاعر الشهيد لن أنسى واحدة من أحلى لقاءاتنا، يوم حضر المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي اللبناني ممثلاً منظمة التحرير الفلسطينية، وجلسنا معاً في منصة الرئاسة، هو ولطفي الخولي وأنا. وكان ذلك في يناير/ كانون الثاني من عام 1972.
طابت ذكراك يا كمال ناصر.
مختارات
أختار فيما يلي بعضاً من نماذج أشعاره، في شكل سيكون مبتسراً، بالتأكيد، لكنه اختيار يشير، ولو بحدود، إلى ما ذهبت إليه في تقديري لمشاعره التي اختلط فيها الخاص بالعام، الإنساني الفردي بالوطني العام الذي يشارك فيه مشاعر شعبه المعذَّب. يقول بعد خروجه من أحد سجونه:
فما السجن إلاَّ احتقار الأملْ
وما المجد إلاَّ انتصار الفشلْ
وما النصر إلاَّ عذاب السنينْ
ثم يستبدل باليأس الأمل فيقول:
فلا تهدئي واعصفي يا رياحْ
فكل سجين بألف جناحْ
سينشقُّ عن قيده في الصباحْ
لينشر في الشعب حق الكفاحْ
ويسلي نفسه باعتباره رائد سجون ينتقل من سجن إلى آخر:
قد عدت لا أبالي
تشتاقني الزنزانَهْ
في دربها فضول
لا أدعي نسيانَهْ
سلخت فيه عمراً
مناجيا شيطانَهْ
يحملني بعيداً
في رحلة سكرانَهْ
أرى بها بلادي
دروبها ظمآنَهْ
وإذ يتذكَّر مجزرة دير ياسين يقول بأسى ومرارة:
دير ياسين والدماء الغوالي
لم يزل في العروق منها شقاء
والضحايا الأطفال كل صغير
بين جفنيَّ دمعة خرساء
فلذات تصيح عبر خيالي
وتنادي بأننا أبرياء
كل يوم...ضحية وشهيد
عربي وطعنة واعتداء
لكنه يقول حين يحاور الحبيب، في لحظة حزن ومرارة وفشل:
سأنسى بأني حملتك طفلاً
جميلاً شهيا
سأنساك في موجة الذكريات
وأخنق في الصدر كل نداء
http://www.alkhaleej.ae/articles/show_article.cfm?val=123200
إضافة تعليق جديد