مقالة تنشر في العدد القادم من مجلة المال
-------------------------------------------
لا يعتبر تحول منتجي البرمجيات إلى نموذج عمل المصادر المفتوحة أمرا سهلا، فرغم كل الميزات التي ذكرناها في مقالنا السابق، سيبقى التخلي عن مصدر البرامج قرارا صعبا على المنتجين.
إضافة إلى ذلك، فالتحول إلى استخدام المصادر المفتوحة قرار صعب على المستخدم أيضا، فكيف يمكن إقناع مدير الشركة بدفع ثمن شيء يقدم له مجانا؟ بل كيف يمكن إقناعه أن هذا المجاني مناسب للعمل مثل المنتجات غالية الثمن التي تنتجها تلك الشركات الكبيرة التي تستثمر أموالا هائلة في تسويق منتجها.
البحث عن القيمة المضافة
مثل كل أنواع الصناعة، تركز صناعة البرمجيات على تلبية متطلبات الزبون، وبما أن المتطلبات متنوعة حسب المشاكل التي يواجهها الزبون واحتياجات تطوير عمله، يركز منتجو البرمجيات في تصميم حلولهم على تلبية المتطلبات العامة التي يحتاجها أغلب الزبائن المحتملين، وهكذا يطورون حلولا تحقق بعض متطلبات أي زبون بنسبة ما، ويتولى قسم المبيعات إقناع الزبائن المحتملين بشراء الحل لأنه يحقق بعض متطلباته، وبالتعاقد على تخصيص الحل بعد شرائه ليناسب بقية الاحتياجات. ويمكن أن يتوصل منتج البرمجيات إلى اتفاق من هذا النوع مع الزبون في بعض الحالات.
ويدرك منتجو البرمجيات أن من الصعب أن تبيع منتجا يحقق كل متطلبات الزبون، وحتى لو نجحوا في تحقيقها بشكل مؤقت، فالمتطلبات ستنمو مع نمو عمل الزبون، وستتغير مع تغير التحديات التي تواجهه، ولذلك تشمل عقود بيع البرمجيات لقطاع الأعمال بنودا خاصة بتخصيص الحل ليناسب الزبون، وبتطويره ليناسب احتياجاته في المستقبل.
وبما أن البرمجيات التجارية الموجهة لقطاع الأعمال ليست رخيصة، وتحتاج لتطوير مستمر، يفضل الزبون عادة أن يشتري من شركة معروفة أثبتت مصداقيتها، ويضمن أنها قادرة على تلبية متطلباته في المستقبل، بدلا من الشراء من شركة صغيرة أو حديثة العهد، وذلك بغض النظر عن جودة المنتج، وفرق السعر، ومدى توافق المنتج بصيغته الحالية مع احتياجات الشركة الحالية.
ولذلك، فقرار الشراء لا يعتمد على ملاءمة المنتج بحد ذاته لمتطلبات الشركة، بل يعتمد أيضا على نوعية الخدمة التي تقدمة مع المنتج، وضمانة استمرار الشركة المصنعة في تقديم هذه الخدمة للسنوات القادمة. وفي ظروف سوق مثل هذه، تسيطر شركات البرمجيات العملاقة على أهم الصفقات اعتمادا على مصداقيتها، وقدرتها على توفير طاقم كبير لتلبية أغلب احتياجات الزبون ضمن وقت قصير.
وفي السوق السورية نجد مثلا أن شركات عديدة تفضل شراء البرمجيات المستندة على قاعدة بيانات أوراكل بسبب سمعة أوراكل وليس بسبب ملاءمة التطبيقات لاحتياجات الشركة، بل إن مواصفة "قاعدة بيانات أوراكل" تأتي قبل الكثير من المواصفات بالغة الأهمية عند كتابة مستندات المتطلبات Requirement Documents للمشاريع البرمجية في العديد من الشركات الكبيرة في سورية.
البرمجيات تتعلم من سوق العتاد
مرت سوق العتاد بمرحلة تشبه في ظروفها هذه المرحلة التي تمر بها سوق البرمجيات، فالتجهيزات كانت باهظة الثمن قبل عشر سنوات، وشراؤها يتطلب استثمارا كبيرا، وللمحافظة على ريعية الاستثمار يرغب المشتري بالحصول على خدمة ممتازة في مرحلة ما بعد البيع، ولذلك يفضل الشراء من أكبر مصنعي التجهيزات، وبأسعار أعلى، مع أن الأجهزة التي تجمعها شركات صغيرة تفي بغرضه، وبكلفة أقل.
ومع تطور السوق أدركت الشركات أن صيانة العتاد لا تحتاج لخبرة كبيرة، فبدأت تطور خبرتها الخاصة، وتركز على المنتَج بشكل أكبر من التركيز على المنتِج. وبالنتيجة تراجعت مبيعات كبريات الشركات المصنعة للأجهزة، ومرت بظروف صعبة أجبرتها على تغيير نمط عملها أو الاندماج فيما بينها.
تمر سوق البرمجيات حاليا بنفس المرحلة الانتقالية، فالبرمجيات التي تنتجها الشركات الكبيرة باهظة الثمن، وتستطيع الشركة أن تحصل على منتج مناسب لها عبر تجميع بعض القطع البرمجية مفتوحة المصدر، وتوظيف مبرمجين يتولون تخصيص هذه القطع البرمجية لتناسب الاحتياجات الحالية والمستقبلية للشركة.
إن استشراف المستقبل في صناعة البرمجيات يوحي أن منتجي البرمجيات الذين يعملون وفق النمط التقليدي سيواجهون نفس المشاكل التي واجهها منتجو الأجهزة منذ سنوات، وأن الرابح الأكبر في السوق خلال سنوات سيكون الشركات التي تنتج برمجيات بكلفة متدنية، وبأسعار معقولة، وتضمن خدمة التخصيص للمستثمر وتقدم له الدعم التقني الممتاز. وباختصار، تتطلب مواجهة تحديات سوق البرمجيات التميز في تقديم القيمة المضافة على المنتج البرمجي.
صفقات الربح المتبادل
يستطيع منتجو البرمجيات تقديم كمية كبيرة من الخدمات المضافة على منتجهم، ولكن لا توجد خدمة تزيد في قيمتها على تقديم اتفاقية ترخيص مفتوحة المصدر للمنتج البرمجي. وباعتماد نموذج العمل الذي شرحناه في العدد الماضي، يمكن أن يحقق منتج البرمجيات مفتوحة المصدر ربحا ممتازا مع تقديم خدمة ممتازة للزبون.
بالنسبة للزبون، قد يعتبر شراء برنامج مرخص وفق أحد تراخيص مبادرة المصادر المفتوحة حلا ممتازا لضمان عدم خسارة الاستثمار الأولي، فالترخيص مفتوح المصدر يقدم للزبون حرية متابعة تطوير المنتج البرمجي بنفسه أو بالتعاقد مع أية شركة أخرى يختارها. وبذلك يحل الزبون مشكلة المخاطرة في شراء برمجيات غير مضمونة، ويصبح التركيز الأساسي على جودة المنتج البرمجي وملاءمته لاحتياجات الشركة.
لذلك، إضافة إلى الميزات التي شرحناها في العدد الماضي عن نموذج عمل المصادر المفتوحة، يمكن أن نتوقع أن اعتماد هذا النموذج يساعد إلى حد كبير في ضمان التوصل إلى صفقة ربح مشترك win-win بين المنتج والزبون
من يحفظ حق المنتج؟
بشكل عام، يفترض أن يحمي القانون اتفاقية الترخيص التي يوزع على أساسها المنتج البرمجي، وللأسف في سوريا لا يبدو أن القانون يستوعب أهمية حماية اتفاقيات الترخيص، ولذلك يمكن أن تتعرض شركة منتجة لخطر أن تستولي شركة منافسة على برامجها وتسوق نسخا خاصة منها مع تغيير في الشكل والإخراج لتنافس المنتج الأساسي للشركة الأصلية.
هذه المشكلة تواجه كل منتجي البرمجيات، وليس فقط منتجي البرمجيات مفتوحة المصدر، ومازالت السوق السورية تشهد قرصنة العديد من البرامج المنتجة محليا، والمحمية بعتاد Dongle حيث تقوم فرق متخصصة بكسر الحماية ثم تصميم حماية بديلة وبيع البرامج المقرصنة محمية بالحماية الجديدة وبأسعار أرخص بكثير.
لذلك، وبسبب غياب الحماية القانونية، لا يستطيع منتج البرمجيات أن يضمن لنفسه حماية حقيقية من القرصنة في السوق السورية، وربما يكون الحل الوحيد هو الاستثمار في الحرية.
الحرية كخيار استثماري
في السوق السورية، يتزايد تدريجيا عدد الشركات الكبيرة التي تطلب مصدر البرنامج عند الشراء، ويتزايد أيضا عدد الشركات التي تقدم مصدر البرنامج للزبون بناء على طلبه، ولذلك نتوقع ان اتجاه السوق السورية ربما يتجه لإعطاء أفضلية لمنتجي البرمجيات مفتوحة المصدر. لا يمكننا أن ننكر أن فتح المصدر ينطوي على بعض المغامرة للمنتج، خصوصا في ظل غياب قانون ملكية فكرية متكامل، وقضاء قادر على تطبيقه في بلدنا. ولكن يبدو أن نزعة السوق تتجه بهذا الاتجاه، والشركات التي تركب الموجة ستكون أقدر على مواجهة التغير القادم في طريقة شراء البرمجيات.
بالمقابل، بدأ قطاع الأعمال يدرك أنه لا يوجد برمجي متكامل، وأن رفع عائدية الاستثمار استخدام البرمجيات يتطلب متابعة تطويرها مع تطور الاحتياجات. والخيارات التي تواجه الشركات الراغبة في تطوير برمجياتها بشكل مستمر ليست عديدة:
1- شراء منتج برمجي وفق ترخيص تجاري، والاعتماد على المنتِج في تطويره
2- شراء منتج برمجي وفق ترخيص مفتوح المصدر، وامتلاك الحرية الكاملة في تطويره بالطرق المناسبة، اعتمادا على المنتِج نفسه أو على غيره.
الفرق الأساسي بين الحالتين هو فكرة الحرية، وهي الفكرة الكامنة خلف مبادرة المصادر المفتوحة. وأود أن أؤكد أن الخيار ليس محسوما سلفا، ففي بعض الحالات، قد يكون الخيار الأول أجدى من الناحية الاستثمارية رغم أنه لا يقدم نفس ميزة الحرية. فما يريده الزبون قد يكون "منتجا يؤدي الغرض" وليس "منتجا يعطيه حرية التطوير ليؤدي الغرض". إضافة إلى ذلك، حتى عندما يقرر الزبون الاستثمار في الحرية، عليه ان يضمن أنه قادر على الاستفادة منها، وهو أمر قد لا يكون متيسرا دائما.
رغم هذه الصعوبات بدأت السوق السورية تنظر إلى حرية البرمجيات كخيار استثماري، ونتوقع أن تزداد موجة طلب مصدر البرامج في المستقبل، وعندها لا بد أن يواجه منتجو البرامج غير مفتوحة المصدر تحديا كبيرا. لا يمكن حاليا التنبؤ بسرعة تطور السوق أو الاتجاه الأساسي الذي سيسود فيها خلال الأعوام القادمة، لأن ذلك مرهون بعوامل عدة أهمها تطور صناعة البرمجيات السورية التي تعاني حاليا مخاضا كبيرا يمنعها من التطور، ولكن من الواضح أن حرية البرمجيات بدأت تفرض نفسها تدريجيا كأحد شروط الاستثمار في البرمجيات.
الأيهم صالح
www.alayham.com
خاص بمجلة المال
إضافة تعليق جديد