نقلا عن نشرة سورية الغد الالكترونية
====================
نفسية الجماهير وإخماد الفتنة
الدكتور سامر اللاذقاني
مقدمة والهدف من الموضوع:
عندما طُلب مني الكلام في هذا اللقاء كانت قد حصلت بعض الأحداث الفردية، ضَخّم محتواها العامة حتى أضحت تُروى وكأنّ مواجهة محتّمة سوف تقع. مما دفعني للتفكير بالسهولة المرعبة التي يمكن لحدث أو شخص ما، أن يحرك بها الجماهير عندما تكون محتقنة، فتنطلق من عقالها كالثور الأهوج غير عابئة بمنطق أو بأخلاق. فالجماعات البشرية عندما تواجه حدثا ما تعتقد انه يهدد أمنها ووجودها، تعود إلى ذاكرتها الجماعية لتستقي منها أدوات خوفها ورعبها وحقدها. وبالعودة إلى التاريخ نجد أن أياً من العدو والمحتل يحاول دائما العزف على هذا الوتر لتحقيق مكاسبه وفرض مصالحه. لذا سنحاول تسليط بعض الضوء على دراسة التكوين الذهني للجماهير، ثم نعرّج على دور المؤسسة الدينية في إذكاء أو إطفاء هذا الجمر الدائم، الذي في لحظة ما قد ينقلب نارا محرقة لا يمكن السيطرة عليها، وينطلق مارد الفتنة من قمقمه مدمّرا الزرع والضرع والبشر. ثم ننتهي بالتساؤل كيف نتقي الكارثة؟ وما هي الآليات المقترحة لنرتقي بنفسية الجماهير للتعاطي مع الحدث، من عقلية القطيع الأهوج إلى تفكير العاقل الناقد الحر، حتى نبني وطناً ونصنع إنسانا يؤمن بشراكة المواطنة ويمارسها حقاً.
أخشى أن تتحول مؤتمرات الحوار هذه، إلى عبث ثقافي مجرّد والى نشاط ذهني غير مثمر. فهذه اللقاءات تتناول النخبة المثقفة وطبقة مصطفاة ومختارة، لكنها لا تمس من بعيد أو قريب الجماهير الواسعة، أو العامّة كما يسميها البعض. صحيح أننا ابتعدنا في حواراتنا عن المجادلات الإنكارية الجاحدة من جانب المسلمين والمسيحيين على حد سواء، واستطعنا أن نصل، إلى حد ما، إلى الاستيعاب النقدي وتجاوز التراث، لكن الجهد الأساسي يجب أن يبقى منصبّاً على الجماهير، ليس فقط تثقيفا وتوجيهاً إنما بمعرفة الآليات الدقيقة التي تحرّكها أو تفجرّها.
إن الحركات الأصولية، في عمليات دفاع ذاتي، ناجمة عن خوفها على هويتها وخوفها من الآخر ومن العالم، أحدثت تشويها في الحقائق وتحريفا للوقائع، منتجةً مقولات مثل الصليبية والغزو الثقافي والمؤامرات العالمية الخ... وأصبحت هده الأصولية من الجانبين تستنطق الكتب الدينية دون أن تملك أدوات القياس والمحاكمة والوسائل المناسبة.
واختلفت التسميات التي تطلق على الجماهير، فمنهم من قيّمها سلباً وسماها: رعاعاً وعامة وغوغاء، ومنهم من رأى في الجماهير تعبيراً عن الإرادة العامة للشعب وأساساً للمجتمع.
لكني هنا في هذه العجالة سأطرق فقط الجانب النفسي لهذه الجماهير لنتعرّف على صفاتها ومحرّضاتها، مستعينا بنظريات المفكر الفرنسي غوستاف لوبون.
الجماهير تبتلع الفرد، وهي تتميّز بعواطف مندفعة، تُستثار بسهولة خطيرة كما أنها سهلة الانقياد. وسبب هذه الخاصية هي العدوى الفكرية والروح الجماعية التي تجعل الجماهير تفكّر وتتصرف بطريقة مختلفة تماما عما كان سيشعر أو يفكّر أو يتصرف كل فرد بمفرده، وبمعزل عن الآخرين.
إن المشاركة النفسية الحميمة بين الأشخاص تؤدي إلى انصهار الفرد في الجماعة، بحيث تصبح "الأنا" موجودة إلى درجة معينة في الحياة المشتركة والأهداف المشتركة للجماعة، فتذوب "الأنا" لتصبح "نحن".
ووسائل الإعلام الجماهيرية، كما الأحداث، لا تؤثر على الفرد مباشرة في علاقة عمودية، إنّما تؤثر بعد تصفيتها ومرورها عبر المحطات والمصافي الاجتماعية المختلفة فتصل غالباً محوّرة لا بل مشوّهة.
إنّ ملاحظة المجموعات الصغيرة تُظهر كيف أن لا وعي الأفراد يتم تحريضه واستنفاره ليشارك في ديناميكية الجماعة. ويمكن توسيع نتائج الملاحظة بحيث نقول أن "الأنا" موجودة دائما ضمن مجموعة أو طبقة يستمد منها الفرد هويته الشخصية الخاصة. وعندما نفتّش أكثر نجد أن داخل كل "أنا" يوجد بالضرورة "نحن" كامنة. فمن دون الجماعة تبقى "الأنا" فارغة من معناها. فأنا أقول أنا طالب أو أنا سوري أو أنا رجل... أي أن هناك انتماء إلى ما وراء الفرد ليمكن لهذا الفرد أن يصبح معرّفاً. لذا سيكون من الطبيعي أن هذا الفرد بحاجة حيوية إلى هذه الجماعة التي تعرّفه وتعطيه هويته، كما أنه مستعد لفعل أي شيء ليبقى في كنفها إذ أنها إذا لفظته أصبح مجرد نكرة مهملة، لكنها إذا حضنته استعاد قيمته وهويته.
وللجماهير عواطف وأخلاقيات خاصة تتميز ببعض النقاط:
والجمهور في سرعة انفعاله مثل الإنسان الهمجي، لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وبين تحقيق هذه الرغبة، خصوصا أن عدده الكبير يشعره بامتلاك قوة لا تقاوم، كما أن مفهوم المستحيل أو الممنوع يصبح لا معنى له بالنسبة للفرد المنخرط بالجمهور.
الجماهير سريعة التأثر وتصدّق أي شيء بسذاجة: فهي تكون بحالة ترقّّب ومهيأة لاستقبال وتلقي أي اقتراح. وهي غير قادرة على الاحتكام للعقل وبعيدة عن كل روح نقدية. والحدث الأكثر بساطة يتحول إلى حدث آخر مشوه بمجرد أن يراه الجمهور الذي يفكّر عن طريق الصور التي يستقيها من ذاكرته الجماعية، هذه الصور التي تثير في ذهنه صورا أخرى بدون أي علاقة منطقية مع الأولى.
وبما أنه غير قادر على التمييز بين الذاتي والموضوعي، فانه يعتبر الصور المثارة في خياله بمثابة واقع وحقيقة. وعن طريق العدوى الفكرية والتحريض تصبح التضخيمات والتشويهات ذات طبيعة واحدة ومعنى واحد لكل أفراد الجماعة، ونجد مثالا لذلك عندما يتخيل أحد الأفراد حصول معجزة دينية أو رؤية خارقة فتنتشر هذه الرؤية مثل النار في الهشيم، وتكاد تعتقد الجماعة كلها أنها عاينتها وعايشتها ونكون هنا أمام حالة من الهلوسة الجماعية.
وفي هذا الصدد أتوقف قليلا لأذكر كلمتين عن الإشاعة كمفهوم يغذّي هذه الحالة الخاصة
الاشاعة:
يقول فيرجيل عن الإشاعة أنها رسول الكذب والحقيقة، وهي من أسرع الأوبئة، تنشر الذعر وتقوى كلما انتشرت. تتميز الإشاعة ب 4 عناصر:
1. لا علاقة لها بالحقيقة والخطأ، فهي يمكن أن تنشر الاثنين معا
2. تستجيب لشيء آخر لا علاقة له بالمعرفة، بل في اللاوعي الجماعي
3. الإشاعة ذات تأثير إرهابي، وتفرض نفسها بانتشارها، كما تفرض إرادتها على الروح الجماعية، بل هي قمة الأدوات الإرهابية في خطرها وفعاليتها
4. يحصل تشوّه بالإشاعة عند انتشارها مما يزيد تأثيرها بالنفوس، وهي تتغذى من ذاتها. وكمثال على ذلك سقوط مدينة أنفيرس في بلجيكا أثناء الحرب العالمية الثانية بيد الألمان فقرعت الكنائس الألمانية أجراسها. في نهاية المطاف وبعد انتقال القصة من صحيفة إلى أخرى أصبحت تُروى على أنه تم تعذيب الكهنة البلجيكيين الذين رفضوا قرع الأجراس وتم تعليقهم وهم مدلّين إلى الأسفل ليتم قرع الجرس برؤوسهم.
إن الإشاعة غنية وفقيرة في الوقت نفسه. هي غنية لأن القصص تتراكم دون نهاية، وفقيرة لأن مواضيعها عبر الأزمنة والعصور ما زالت متشابهة، فهي تعبير عن موضوعين يتكرران، ألا وهما الرغبة والقلق، كما هي الحال بالنسبة للأحلام.
إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، ومستقلة تماما عن معانيها الحقيقية. كما أنها تغيّر مفهومها عبر العصور، نأخذ كلمة الحرية مثلا التي تعني شيئا مختلفا عما كانت تعنيه قبل 2800 سنة أي أمارجي في مملكة لغش السورية.
والإشاعة سلاح خطير بيد الذين يتقنون استعماله, والآثار الاقتصادية في عالمنا الراهن التي قد تنشأ عن فعلها غنية عن الذكر، والكوارث التي حلّت بالبورصات مثال حي على تأثيرها.
والجماهير تقوم بتضخيم عواطفها وتبسيطها بآن واحد: إن المبالغة والبساطة في العواطف يحمي الجماهير من عذاب الشكوك وعدم اليقين. وضمن الجمهور، يتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، فيصبحون مجيّشين بقوة عنيفة وعابرة لكن هائلة بسبب شعورهم بالقوة التي لا تقهر وفقدان المعاقبة. وهذه المبالغة تخص العواطف دون العقل، فبمجرد ما أن ينخرط الفرد في الجمهور حتى ينخفض مستواه الفكري كثيراً. والتحليق عاليا أو الانحطاط إلى أسفل السافلين يكون على مستوى العواطف بشكل أساسي، وليس على المستوى العقلي أو الفكري.
والجماهير متعصبة دوماً، ذات نزعة استبدادية ومحافظة: وبما أن الجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة، فان الآراء والأفكار والعقائد تُقبل من قبلها أو تُرفض دفعة واحدة. فهي إمّا أن تعتبرها كحقائق مطلقة أو كأفكار مطلقة. وكلّنا يعلم مدى تعصّب العقائد الدينية، ومدى الهيمنة الاستبدادية التي تمارسها على النفوس، ونزعتها المحافظة الرافضة للتطوير والتحديث.
وإذا كان الفرد يقبل الاعتراض والمناقشة فان الجمهور لا يحتملهما مطلقاً. ويمكن أن نعمم قائلين أن نزعتي الاستبداد والتعصب عامتان لدى كل الجماهير ولكنهما تتظاهران بأنواع ودرجات متفاوتة، لأنها تشكل لها عواطف واضحة جدا،ً وهي تحتملها بالسهولة ذاتها التي تمارسها بها.
هل للجماهير أخلاقيات؟: إذا كنا نربط بكلمة الأخلاقية معنى الاحترام الحقيقي لبعض الأعراف والتقاليد لاجتماعية، ثم القمع الدائم للنزوات الأنانية، فإن الجماهير صاحبة النزوات والغرائز شديدة الهيجان، غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية. لأن غرائز التوحش الهدّامة من بقايا العصور البدائية ما زالت نائمة في أعماق كل منّا، وإذا كان من الخطر أو من الممنوع على الفرد المعزول إرضاؤها أو إشباعها، فانّه يمكنه اتباعها عند الانخراط في جمهور ما غير مسؤول، لأنه يعرف مسبقاً عدم تعرضه للمعاقبة جزاء أفعاله.
لكن يجب أن لا ننسى، وأحب أن أؤكد على هذه النقطة الهامة، أن الجمهور إذا كان قادرا على القتل والحرق ومختلف أنواع الجرائم، فإنّه قادر أيضا على أفعال التضحية والفداء والشهامة الأكثر ارتفاعا وسمواً من التي يقدر عليها الفرد الواحد. ويتم ذلك عن طريق التركيز على عواطف المجد والشرف والدين والوطن، دون أن تكون المصلحة الشخصية هي المحرّك وراء ذلك. وهناك أمثلة كثيرة تضربها الجماهير عن التفاني المطلق في سبيل مثل أعلى، وهمي أو واقعي، ودون أن تفهم بالضرورة كل الأساس الفكري للقضية التي تقاتل وقد تموت من أجلها.
دور المؤسسة الدينية تعقيداً وحلا:
قال غاندي في كتابه قصة تجاربي مع الحقيقة: "إن الذين يقولون أن الدين ليس له أية صلة بالسياسة، لا يعرفون ماذا يعني الدين". و كما ذكرنا، فإن الجماهير لا تفكّر عقلانيا وهي تتبنى الأفكار دفعة واحدة أو ترفضها، وهي لا تحتمل المناقشة والاعتراض، والتحريضات المؤثّرة تغزو ساحة فهمها وتميل للتحول إلى فعل وممارسة فوراً. إن عدم التسامح والتعصّب يشكلان المفصل الأساسي للعاطفة الدينية، وهما موجودان حتما عند الذين يعتقدون انهم يمتلكون سر السعادة الأرضية أو الأبدية. وقناعات الجماهير تتسم بهذه الخصائص من الخضوع الأعمى والتعصّب العنيد وحبّ الدعاية العنيفة الملازمة لكل عاطفة دينية. ولا داعي لتكرار الحقيقة البديهية أنّ الجماهير بحاجة إلى دين، فالعقائد السياسية والاجتماعية والسماوية لا تترسخ لديها إلا عندما تكتسي الحلّة الدينية التي تضعها بمنأى عن المناقشة والأخذ والرد.
وحتى الإلحاد يأخذ لديها كلّ ضراوة التعصب الخاص بالعاطفة الدينية. من هنا تنبع أهمية المؤسسة الدينية الكبيرة، كمحرّك وموّجه للجماهير كونها هي التي تغذي هذه العاطفة الدينية وتوجّه مسارها. ويسهّل هذا التأثير كون أفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لا واعي ينطوي على البقايا اللانهائية الموروثة عن الأسلاف، وهي التي تشكل روح جماعة إنسانية ما، ويسميها البعض الذاكرة الجماعية. والكثير من أعمالنا اليومية ناتج عن دوافع مخبأة تتجاوزنا.
ويزخر التاريخ بالأمثلة عن الأحداث التي خرجت من يد المؤسسة السياسية، لتستقر في سلطة المؤسسة الدينية، التي أصبحت هي التي تحرّك الجماهير وتلهب عواطفها، اذكر في هذا الصدد الهند والباكستان مثلا.
لكن في بعض الأحيان يكون تفاعل الأمور وانفجارها أقوى من أن يُكبح جماحها، وتفلت تماما من السيطرة. ولعل أحداث 1860 وبعض فصول الحرب الأهلية الظلامية في لبنان خير مثال عنها.
إن المؤسسة الدينية هي أقوى الأطراف تأثيرا في الجماهير، لأن العاطفة الدينية هي أشد العوامل المحركة لذهنيتها.
ولا ننكر أن ما تقوم به المؤسسة الدينية ، إسلامية ومسيحية، من دفع للحوار المشترك هو خطوة أساسية نحو خلق شروط صحية وصحيحة في المجتمع. لكن الحوار يقوم على التكافؤ والتوازن بين الأطراف المتحاورة، كما أنه لا يكون فقط وسيلة لتنفيس الأزمة بقدر ما يجب أن يهدف إلى استباق وقوعها ومنع تكون أسبابها.
ولا يكون الحوار فقط لحل أزمة ناشئة، بل يجب أن يؤسس لعلاقة من التواصل والتلازم والتكامل. ولنعمل بكل وضوح لوقف تماهي المسيحي الشرقي مع الغرب الاستعماري في ذهن العامة، ولرفض النظرة الدونية من كل طرف للآخر. كما نرفض الانجراف إلى ما يسمّى صراع الحضارات والمجابهة الإسلامية المسيحية، لأن المجابهة الحقيقية هي بين الاستعمار والشعور القومي.
طبعاً يمكن للمؤسسة الدينية العمل على تجنّب التصرفات التحريضية، أو التي يمكن أن تفسّر على أنّها تهجّمية أو مثيرة لردود الأفعال، خاصة عندما تكون النفوس مشحونة، مثل استعمال مكبرات الصوت أو المسيرات أو التظاهرات أو ممارسة بعض الشعائر بطريقة صارخة وغير مألوفة. وإنّها لمهمةٍ خطيرة ملقاة على عاتق المؤسسة الدينية، ألا وهي تنزيه الإيمان من الشوائب التي لحقت به عبر العصور حتى اختلط الحق بالباطل، و الأصيل السليم بالدخيل المزوّر. وأفضل من يحدّ من ضرر التعصب الديني هي المؤسسة الدينية حتماً. لا ننسى أن التعصب الديني كان وما يزال أفضل طريقة للقضاء على الشعور القومي، لذا حاول الاستعمار دائما دعم التعصب والتطرف وخلق صنائع له بين هذه الفئات، يستعملها لتحقيق مصالحه الخاصة وأهدافه الموضّعة.
لا يمكن أن ننكر أن هناك أزمةً روحية وخوفاً على المصير من الطرفين، ويجب على المؤسسة الدينية منع استغلال هذه الحالة المرضية من قبل أي طرف مشبوه.
دور مؤسسات المجتمع المدني تعقيداً وحلا:
من البديهي أن المجتمع قائم على تعددية الأطراف المؤلّفة له وعلى المساواة بين أطرافه. وأي خلل في هذه الموازنة يؤدي إلى نزف الهجرة والتهجير.
إننا نعيش في عالمنا العربي أزمة هوية شديدة، خصوصا تجاه الغرب، ولا بد لمجتمعنا العربي أن يأخذ موقفاً من الغرب شاء ذلك أم أبى، نظراً لدور الحضارة الغربية الرائد في هذا الزمان. وهناك تيار يرى في الغرب الغازي الذي يدمّر حضارتنا، وتيار آخر يرى فيه القدوة والمثل الأعلى.
فهل يشكّل الغرب خطرا على ثقافتنا وحضارتنا؟ إذا نظرنا إليه نظرة العدو للعدو، فقدنا إمكانيات التطور الموجودة لدينا، فالخوف من الغرب يؤدي إلى التقوقع وافتقار الشخصية. كما أن الاقتداء الأعمى يؤدي إلى الضياع وفقدان الشخصية، وكلا الموقفين مرفوض.
الانطواء على الذات تقوقع وموت. وقبول التحدي هو غنى، والطريق للوصول إلى حضارة منفتحة أصيلة.
من الجلي أن بناء الإنسان المفكّر صاحب الفكر النقدي، هو المهمّة الأساسية الملقاة على عاتق مؤسسات المجتمع المدني. ولعلّ هذه المهمة يجب أن تبدأ منذ السنوات الأولى للدراسة، ليس بتلقين التلاميذ مبادئ التسامح الفكري، بل قبل كل شيء بنبذ التعليم الببغائي الذي ينتج فرداً منصاعا مقلّداً سهل القيادة، والعمل على التحوّل إلى تعليم ينمّي القدرة على النقد والمحاكمة والتفكير الحر، لنبني إنسانا يبتعد عن عقلية القطيع وينأى عنها.
من الضروري أن يكون واضحاً لدى الجميع، أن لا مجال لاحتكار الحقيقة واحتقار الآخر. ووجود مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وممارسة ديمقراطية سليمة، من الشروط الأساسية لإعطاء كل أزمة طارئة حجمها الحقيقي، وإيجاد الوسائل المناسبة لتفريغها من محتواها المتفجّر. كما أن مؤسسات المجتمع المدني هي المولجة بمهمة دقيقة ألا وهي تنقية الذاكرة الجماعية.
إن زرع الروح النقدية الواعية لدى الجماهير سيسمح لها برؤية التناقضات. ولا يكفي أن نركّب طبقة جديدة فوق طبقة المخزون الثابت للأفكار الدينية والاجتماعية الموروثة، دون أن نغيّر شيئا منها. ونلاحظ تلك الظاهرة لدى الذين تابعوا دراساتهم العليا في جامعات غربية، إذ أنّه حسب اللحظة والظروف تظهر الطبقة الأولى أو الثانية لديهم، وكل واحدة منها مصحوبة بموكب خطاباتها ومواقفها الخاصة المعروفة.
ولمّا كانت الأفكار تستعصي على الجماهير إذا لم تتخذ هيئةً بسيطة جدا، فانه ينبغي لكي تصبح شعبية أن تتعرض لعملية تحويل كامل لكي تنزل من طبقة إلى طبقة. وهنا تكمن أيضا وظيفة المجتمع المدني، القادر على نشر الأفكار بطريقة تعجز عنها المؤسسات الرسمية ذات الخطاب الجامد المتحجر الذي ما زالت تجتر مفرداته حتى فرغتها من معناها.
وعندما تتوصل فكرة ما بواسطة مجريات متعددة إلى الإنغراس في روح الجماهير، فإنّها تكتسب قوةً لا تقاوم، وينتج عنها سلسلةٌ من الانعكاسات والنتائج الهامة بالنسبة لكامل الوطن.
وإذا كانت الأفكار تحتاج إلى وقت طويل كي تترسخ في نفوس الجماهير، فإنّها تحتاج إلى وقت لا يقل عنه طولاً كي تخرج منها. أي أنّه من وجهة النظر الفكرية تبقى الجماهير متأخرة عن المفكرين والفلاسفة والعلماء عدة أجيال.
إن المحاجات العقلية الصارمة غير كافية لإقناع الجماهير، لأن الجماهير في تفكيرها تربط بين أشياء متنافرة ليس بينها إلا علاقات سطحية ظاهرية، كما أنّها تقوم بتعميم مباشر لحالات فردية وخصوصية، وهاتان الخاصتان وصفيتان للمنطق الجماعي. ونرى أن الوقائع ليست هي بحدّ ذاتها التي تؤثر على المخيلة الشعبية، إنّما الطريقة التي تعرض فيها هذه الوقائع.
لقد سعت أنظمة متعددة، وأحيانا كثيرة المؤسسة الدينية، إلى تشجيع مفهوم الجمهور القطيع، الذي تسهل قيادته حسب رغبات وأهواء معينة، دون أن يناقش أو يحتج. لذا كان من الشائع حدوث حركات تحريضية بين العامّة، مبنية كما رأينا على أساس عاطفي أعمى وغير منطقي أو نقدي.
والقضية ليست فقط أن نتكلم عن التسامح بمعناه الواسع، والذي أرفضه بمعنى السماح بالأمر واحتماله على مضض، لأن في ذلك بذور الفتنة القادمة، إنما التسامح بمعنى التفاهم والالتزام والتكامل. والحل كما أراه ليس بحوار النخبة فقط، ولكن قبل كل شيء بالالتفات إلى نفسية هذه الجماهير، بتحليل بنيتها والعمل على تحويلها إلى أفراد مفكرين عبر نهضة قومية اجتماعية.
أمامنا مهمة تتعلق بوجودنا الثقافي والحضاري ومستقبلنا جميعا. لا يمكن لأحد أن يقوم بهذه المهمة غير مؤسسات المجتمع المدني في دولة القانون العلمانية. ولا أستطيع أن أتخيل أي مستقبل لهذه الأمة، دون ترسيخ مفهوم المجتمع المدني بكامل مؤسساته الفاعلة والقائم على أسس ديمقراطية سليمة. إذ عندها فقط يمكن معالجة الأمور، ومناقشتها بصدق وصراحة من قبل أفراد واعين متساوين في الحقوق والواجبات وذوي ذهنية متفتحة وفكر نقدي، وحتى يكون الانتماء للوطن وليس للطائفة أو العشيرة. ولولا العلمانية لما توحدت أوروبا!
إن رؤية الأمور على حقيقتها، وعدم التهرّب من الوقائع والمستحقات، شرط أساسي لنزع فتيل الأزمات. إذ لا يمكن تجاوز المراحل الصعبة في بناء الوطن إذا بقينا نتبع سياسة طمر الرؤوس في الرمال أمام كل مشكلة، ونستمر في تكرار الخطاب الجامد نفسه في مدح الذات،
مهملين معالجة لبّ المواضيع الشائكة. نحن بحاجة إلى خطاب جديد ومقاربة شجاعة وصريحة لكل الأمور، دون أن ننسى أن كل هذا الجهد يذهب هباء منثورا إذا لم تكن وراءه جماهير واعية مفكرة. كل منّا مجنّد في حملة الوعي هذه، فما فائدة الأفكار العظيمة إذا لم نستطع نشرها وغرس فحواها في قلوب الناس؟
ليكن خطابنا حيّا،ً وفكرنا عمليا،ً وفعلنا جماهيرياً، حتى تثمر مسيرة البناء التي بدأت، ونحقق مجتمعا صلبا قويا وقادرا على تجاوز كل الصعاب والمؤامرات.
====================
نفسية الجماهير وإخماد الفتنة
الدكتور سامر اللاذقاني
مقدمة والهدف من الموضوع:
عندما طُلب مني الكلام في هذا اللقاء كانت قد حصلت بعض الأحداث الفردية، ضَخّم محتواها العامة حتى أضحت تُروى وكأنّ مواجهة محتّمة سوف تقع. مما دفعني للتفكير بالسهولة المرعبة التي يمكن لحدث أو شخص ما، أن يحرك بها الجماهير عندما تكون محتقنة، فتنطلق من عقالها كالثور الأهوج غير عابئة بمنطق أو بأخلاق. فالجماعات البشرية عندما تواجه حدثا ما تعتقد انه يهدد أمنها ووجودها، تعود إلى ذاكرتها الجماعية لتستقي منها أدوات خوفها ورعبها وحقدها. وبالعودة إلى التاريخ نجد أن أياً من العدو والمحتل يحاول دائما العزف على هذا الوتر لتحقيق مكاسبه وفرض مصالحه. لذا سنحاول تسليط بعض الضوء على دراسة التكوين الذهني للجماهير، ثم نعرّج على دور المؤسسة الدينية في إذكاء أو إطفاء هذا الجمر الدائم، الذي في لحظة ما قد ينقلب نارا محرقة لا يمكن السيطرة عليها، وينطلق مارد الفتنة من قمقمه مدمّرا الزرع والضرع والبشر. ثم ننتهي بالتساؤل كيف نتقي الكارثة؟ وما هي الآليات المقترحة لنرتقي بنفسية الجماهير للتعاطي مع الحدث، من عقلية القطيع الأهوج إلى تفكير العاقل الناقد الحر، حتى نبني وطناً ونصنع إنسانا يؤمن بشراكة المواطنة ويمارسها حقاً.
أخشى أن تتحول مؤتمرات الحوار هذه، إلى عبث ثقافي مجرّد والى نشاط ذهني غير مثمر. فهذه اللقاءات تتناول النخبة المثقفة وطبقة مصطفاة ومختارة، لكنها لا تمس من بعيد أو قريب الجماهير الواسعة، أو العامّة كما يسميها البعض. صحيح أننا ابتعدنا في حواراتنا عن المجادلات الإنكارية الجاحدة من جانب المسلمين والمسيحيين على حد سواء، واستطعنا أن نصل، إلى حد ما، إلى الاستيعاب النقدي وتجاوز التراث، لكن الجهد الأساسي يجب أن يبقى منصبّاً على الجماهير، ليس فقط تثقيفا وتوجيهاً إنما بمعرفة الآليات الدقيقة التي تحرّكها أو تفجرّها.
إن الحركات الأصولية، في عمليات دفاع ذاتي، ناجمة عن خوفها على هويتها وخوفها من الآخر ومن العالم، أحدثت تشويها في الحقائق وتحريفا للوقائع، منتجةً مقولات مثل الصليبية والغزو الثقافي والمؤامرات العالمية الخ... وأصبحت هده الأصولية من الجانبين تستنطق الكتب الدينية دون أن تملك أدوات القياس والمحاكمة والوسائل المناسبة.
واختلفت التسميات التي تطلق على الجماهير، فمنهم من قيّمها سلباً وسماها: رعاعاً وعامة وغوغاء، ومنهم من رأى في الجماهير تعبيراً عن الإرادة العامة للشعب وأساساً للمجتمع.
لكني هنا في هذه العجالة سأطرق فقط الجانب النفسي لهذه الجماهير لنتعرّف على صفاتها ومحرّضاتها، مستعينا بنظريات المفكر الفرنسي غوستاف لوبون.
الجماهير تبتلع الفرد، وهي تتميّز بعواطف مندفعة، تُستثار بسهولة خطيرة كما أنها سهلة الانقياد. وسبب هذه الخاصية هي العدوى الفكرية والروح الجماعية التي تجعل الجماهير تفكّر وتتصرف بطريقة مختلفة تماما عما كان سيشعر أو يفكّر أو يتصرف كل فرد بمفرده، وبمعزل عن الآخرين.
إن المشاركة النفسية الحميمة بين الأشخاص تؤدي إلى انصهار الفرد في الجماعة، بحيث تصبح "الأنا" موجودة إلى درجة معينة في الحياة المشتركة والأهداف المشتركة للجماعة، فتذوب "الأنا" لتصبح "نحن".
ووسائل الإعلام الجماهيرية، كما الأحداث، لا تؤثر على الفرد مباشرة في علاقة عمودية، إنّما تؤثر بعد تصفيتها ومرورها عبر المحطات والمصافي الاجتماعية المختلفة فتصل غالباً محوّرة لا بل مشوّهة.
إنّ ملاحظة المجموعات الصغيرة تُظهر كيف أن لا وعي الأفراد يتم تحريضه واستنفاره ليشارك في ديناميكية الجماعة. ويمكن توسيع نتائج الملاحظة بحيث نقول أن "الأنا" موجودة دائما ضمن مجموعة أو طبقة يستمد منها الفرد هويته الشخصية الخاصة. وعندما نفتّش أكثر نجد أن داخل كل "أنا" يوجد بالضرورة "نحن" كامنة. فمن دون الجماعة تبقى "الأنا" فارغة من معناها. فأنا أقول أنا طالب أو أنا سوري أو أنا رجل... أي أن هناك انتماء إلى ما وراء الفرد ليمكن لهذا الفرد أن يصبح معرّفاً. لذا سيكون من الطبيعي أن هذا الفرد بحاجة حيوية إلى هذه الجماعة التي تعرّفه وتعطيه هويته، كما أنه مستعد لفعل أي شيء ليبقى في كنفها إذ أنها إذا لفظته أصبح مجرد نكرة مهملة، لكنها إذا حضنته استعاد قيمته وهويته.
وللجماهير عواطف وأخلاقيات خاصة تتميز ببعض النقاط:
فهي تمتاز بسرعة انفعالها وخفتها ونزقها: حيث أنها مقتادة كليا تقريبا من اللاوعي، ويصبح الجمهور عبداً للتحريضات التي يتلقاها. الفرد المعزول يمتلك الأهلية والكفاءة للسيطرة على ردود أفعاله في حين أن الجمهور لا يمتلكها. ويمكن للجمهور بسهولة أن يصبح جلادا ولكن بالسهولة نفسها يمكن أن يصبح أيضا ضحية وشهيدا.
والجمهور في سرعة انفعاله مثل الإنسان الهمجي، لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وبين تحقيق هذه الرغبة، خصوصا أن عدده الكبير يشعره بامتلاك قوة لا تقاوم، كما أن مفهوم المستحيل أو الممنوع يصبح لا معنى له بالنسبة للفرد المنخرط بالجمهور.
الجماهير سريعة التأثر وتصدّق أي شيء بسذاجة: فهي تكون بحالة ترقّّب ومهيأة لاستقبال وتلقي أي اقتراح. وهي غير قادرة على الاحتكام للعقل وبعيدة عن كل روح نقدية. والحدث الأكثر بساطة يتحول إلى حدث آخر مشوه بمجرد أن يراه الجمهور الذي يفكّر عن طريق الصور التي يستقيها من ذاكرته الجماعية، هذه الصور التي تثير في ذهنه صورا أخرى بدون أي علاقة منطقية مع الأولى.
وبما أنه غير قادر على التمييز بين الذاتي والموضوعي، فانه يعتبر الصور المثارة في خياله بمثابة واقع وحقيقة. وعن طريق العدوى الفكرية والتحريض تصبح التضخيمات والتشويهات ذات طبيعة واحدة ومعنى واحد لكل أفراد الجماعة، ونجد مثالا لذلك عندما يتخيل أحد الأفراد حصول معجزة دينية أو رؤية خارقة فتنتشر هذه الرؤية مثل النار في الهشيم، وتكاد تعتقد الجماعة كلها أنها عاينتها وعايشتها ونكون هنا أمام حالة من الهلوسة الجماعية.
وفي هذا الصدد أتوقف قليلا لأذكر كلمتين عن الإشاعة كمفهوم يغذّي هذه الحالة الخاصة
الاشاعة:
يقول فيرجيل عن الإشاعة أنها رسول الكذب والحقيقة، وهي من أسرع الأوبئة، تنشر الذعر وتقوى كلما انتشرت. تتميز الإشاعة ب 4 عناصر:
1. لا علاقة لها بالحقيقة والخطأ، فهي يمكن أن تنشر الاثنين معا
2. تستجيب لشيء آخر لا علاقة له بالمعرفة، بل في اللاوعي الجماعي
3. الإشاعة ذات تأثير إرهابي، وتفرض نفسها بانتشارها، كما تفرض إرادتها على الروح الجماعية، بل هي قمة الأدوات الإرهابية في خطرها وفعاليتها
4. يحصل تشوّه بالإشاعة عند انتشارها مما يزيد تأثيرها بالنفوس، وهي تتغذى من ذاتها. وكمثال على ذلك سقوط مدينة أنفيرس في بلجيكا أثناء الحرب العالمية الثانية بيد الألمان فقرعت الكنائس الألمانية أجراسها. في نهاية المطاف وبعد انتقال القصة من صحيفة إلى أخرى أصبحت تُروى على أنه تم تعذيب الكهنة البلجيكيين الذين رفضوا قرع الأجراس وتم تعليقهم وهم مدلّين إلى الأسفل ليتم قرع الجرس برؤوسهم.
إن الإشاعة غنية وفقيرة في الوقت نفسه. هي غنية لأن القصص تتراكم دون نهاية، وفقيرة لأن مواضيعها عبر الأزمنة والعصور ما زالت متشابهة، فهي تعبير عن موضوعين يتكرران، ألا وهما الرغبة والقلق، كما هي الحال بالنسبة للأحلام.
إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، ومستقلة تماما عن معانيها الحقيقية. كما أنها تغيّر مفهومها عبر العصور، نأخذ كلمة الحرية مثلا التي تعني شيئا مختلفا عما كانت تعنيه قبل 2800 سنة أي أمارجي في مملكة لغش السورية.
والإشاعة سلاح خطير بيد الذين يتقنون استعماله, والآثار الاقتصادية في عالمنا الراهن التي قد تنشأ عن فعلها غنية عن الذكر، والكوارث التي حلّت بالبورصات مثال حي على تأثيرها.
والجماهير تقوم بتضخيم عواطفها وتبسيطها بآن واحد: إن المبالغة والبساطة في العواطف يحمي الجماهير من عذاب الشكوك وعدم اليقين. وضمن الجمهور، يتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، فيصبحون مجيّشين بقوة عنيفة وعابرة لكن هائلة بسبب شعورهم بالقوة التي لا تقهر وفقدان المعاقبة. وهذه المبالغة تخص العواطف دون العقل، فبمجرد ما أن ينخرط الفرد في الجمهور حتى ينخفض مستواه الفكري كثيراً. والتحليق عاليا أو الانحطاط إلى أسفل السافلين يكون على مستوى العواطف بشكل أساسي، وليس على المستوى العقلي أو الفكري.
والجماهير متعصبة دوماً، ذات نزعة استبدادية ومحافظة: وبما أن الجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة، فان الآراء والأفكار والعقائد تُقبل من قبلها أو تُرفض دفعة واحدة. فهي إمّا أن تعتبرها كحقائق مطلقة أو كأفكار مطلقة. وكلّنا يعلم مدى تعصّب العقائد الدينية، ومدى الهيمنة الاستبدادية التي تمارسها على النفوس، ونزعتها المحافظة الرافضة للتطوير والتحديث.
وإذا كان الفرد يقبل الاعتراض والمناقشة فان الجمهور لا يحتملهما مطلقاً. ويمكن أن نعمم قائلين أن نزعتي الاستبداد والتعصب عامتان لدى كل الجماهير ولكنهما تتظاهران بأنواع ودرجات متفاوتة، لأنها تشكل لها عواطف واضحة جدا،ً وهي تحتملها بالسهولة ذاتها التي تمارسها بها.
هل للجماهير أخلاقيات؟: إذا كنا نربط بكلمة الأخلاقية معنى الاحترام الحقيقي لبعض الأعراف والتقاليد لاجتماعية، ثم القمع الدائم للنزوات الأنانية، فإن الجماهير صاحبة النزوات والغرائز شديدة الهيجان، غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية. لأن غرائز التوحش الهدّامة من بقايا العصور البدائية ما زالت نائمة في أعماق كل منّا، وإذا كان من الخطر أو من الممنوع على الفرد المعزول إرضاؤها أو إشباعها، فانّه يمكنه اتباعها عند الانخراط في جمهور ما غير مسؤول، لأنه يعرف مسبقاً عدم تعرضه للمعاقبة جزاء أفعاله.
لكن يجب أن لا ننسى، وأحب أن أؤكد على هذه النقطة الهامة، أن الجمهور إذا كان قادرا على القتل والحرق ومختلف أنواع الجرائم، فإنّه قادر أيضا على أفعال التضحية والفداء والشهامة الأكثر ارتفاعا وسمواً من التي يقدر عليها الفرد الواحد. ويتم ذلك عن طريق التركيز على عواطف المجد والشرف والدين والوطن، دون أن تكون المصلحة الشخصية هي المحرّك وراء ذلك. وهناك أمثلة كثيرة تضربها الجماهير عن التفاني المطلق في سبيل مثل أعلى، وهمي أو واقعي، ودون أن تفهم بالضرورة كل الأساس الفكري للقضية التي تقاتل وقد تموت من أجلها.
دور المؤسسة الدينية تعقيداً وحلا:
قال غاندي في كتابه قصة تجاربي مع الحقيقة: "إن الذين يقولون أن الدين ليس له أية صلة بالسياسة، لا يعرفون ماذا يعني الدين". و كما ذكرنا، فإن الجماهير لا تفكّر عقلانيا وهي تتبنى الأفكار دفعة واحدة أو ترفضها، وهي لا تحتمل المناقشة والاعتراض، والتحريضات المؤثّرة تغزو ساحة فهمها وتميل للتحول إلى فعل وممارسة فوراً. إن عدم التسامح والتعصّب يشكلان المفصل الأساسي للعاطفة الدينية، وهما موجودان حتما عند الذين يعتقدون انهم يمتلكون سر السعادة الأرضية أو الأبدية. وقناعات الجماهير تتسم بهذه الخصائص من الخضوع الأعمى والتعصّب العنيد وحبّ الدعاية العنيفة الملازمة لكل عاطفة دينية. ولا داعي لتكرار الحقيقة البديهية أنّ الجماهير بحاجة إلى دين، فالعقائد السياسية والاجتماعية والسماوية لا تترسخ لديها إلا عندما تكتسي الحلّة الدينية التي تضعها بمنأى عن المناقشة والأخذ والرد.
وحتى الإلحاد يأخذ لديها كلّ ضراوة التعصب الخاص بالعاطفة الدينية. من هنا تنبع أهمية المؤسسة الدينية الكبيرة، كمحرّك وموّجه للجماهير كونها هي التي تغذي هذه العاطفة الدينية وتوجّه مسارها. ويسهّل هذا التأثير كون أفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لا واعي ينطوي على البقايا اللانهائية الموروثة عن الأسلاف، وهي التي تشكل روح جماعة إنسانية ما، ويسميها البعض الذاكرة الجماعية. والكثير من أعمالنا اليومية ناتج عن دوافع مخبأة تتجاوزنا.
ويزخر التاريخ بالأمثلة عن الأحداث التي خرجت من يد المؤسسة السياسية، لتستقر في سلطة المؤسسة الدينية، التي أصبحت هي التي تحرّك الجماهير وتلهب عواطفها، اذكر في هذا الصدد الهند والباكستان مثلا.
لكن في بعض الأحيان يكون تفاعل الأمور وانفجارها أقوى من أن يُكبح جماحها، وتفلت تماما من السيطرة. ولعل أحداث 1860 وبعض فصول الحرب الأهلية الظلامية في لبنان خير مثال عنها.
إن المؤسسة الدينية هي أقوى الأطراف تأثيرا في الجماهير، لأن العاطفة الدينية هي أشد العوامل المحركة لذهنيتها.
ولا ننكر أن ما تقوم به المؤسسة الدينية ، إسلامية ومسيحية، من دفع للحوار المشترك هو خطوة أساسية نحو خلق شروط صحية وصحيحة في المجتمع. لكن الحوار يقوم على التكافؤ والتوازن بين الأطراف المتحاورة، كما أنه لا يكون فقط وسيلة لتنفيس الأزمة بقدر ما يجب أن يهدف إلى استباق وقوعها ومنع تكون أسبابها.
ولا يكون الحوار فقط لحل أزمة ناشئة، بل يجب أن يؤسس لعلاقة من التواصل والتلازم والتكامل. ولنعمل بكل وضوح لوقف تماهي المسيحي الشرقي مع الغرب الاستعماري في ذهن العامة، ولرفض النظرة الدونية من كل طرف للآخر. كما نرفض الانجراف إلى ما يسمّى صراع الحضارات والمجابهة الإسلامية المسيحية، لأن المجابهة الحقيقية هي بين الاستعمار والشعور القومي.
طبعاً يمكن للمؤسسة الدينية العمل على تجنّب التصرفات التحريضية، أو التي يمكن أن تفسّر على أنّها تهجّمية أو مثيرة لردود الأفعال، خاصة عندما تكون النفوس مشحونة، مثل استعمال مكبرات الصوت أو المسيرات أو التظاهرات أو ممارسة بعض الشعائر بطريقة صارخة وغير مألوفة. وإنّها لمهمةٍ خطيرة ملقاة على عاتق المؤسسة الدينية، ألا وهي تنزيه الإيمان من الشوائب التي لحقت به عبر العصور حتى اختلط الحق بالباطل، و الأصيل السليم بالدخيل المزوّر. وأفضل من يحدّ من ضرر التعصب الديني هي المؤسسة الدينية حتماً. لا ننسى أن التعصب الديني كان وما يزال أفضل طريقة للقضاء على الشعور القومي، لذا حاول الاستعمار دائما دعم التعصب والتطرف وخلق صنائع له بين هذه الفئات، يستعملها لتحقيق مصالحه الخاصة وأهدافه الموضّعة.
لا يمكن أن ننكر أن هناك أزمةً روحية وخوفاً على المصير من الطرفين، ويجب على المؤسسة الدينية منع استغلال هذه الحالة المرضية من قبل أي طرف مشبوه.
دور مؤسسات المجتمع المدني تعقيداً وحلا:
من البديهي أن المجتمع قائم على تعددية الأطراف المؤلّفة له وعلى المساواة بين أطرافه. وأي خلل في هذه الموازنة يؤدي إلى نزف الهجرة والتهجير.
إننا نعيش في عالمنا العربي أزمة هوية شديدة، خصوصا تجاه الغرب، ولا بد لمجتمعنا العربي أن يأخذ موقفاً من الغرب شاء ذلك أم أبى، نظراً لدور الحضارة الغربية الرائد في هذا الزمان. وهناك تيار يرى في الغرب الغازي الذي يدمّر حضارتنا، وتيار آخر يرى فيه القدوة والمثل الأعلى.
فهل يشكّل الغرب خطرا على ثقافتنا وحضارتنا؟ إذا نظرنا إليه نظرة العدو للعدو، فقدنا إمكانيات التطور الموجودة لدينا، فالخوف من الغرب يؤدي إلى التقوقع وافتقار الشخصية. كما أن الاقتداء الأعمى يؤدي إلى الضياع وفقدان الشخصية، وكلا الموقفين مرفوض.
الانطواء على الذات تقوقع وموت. وقبول التحدي هو غنى، والطريق للوصول إلى حضارة منفتحة أصيلة.
من الجلي أن بناء الإنسان المفكّر صاحب الفكر النقدي، هو المهمّة الأساسية الملقاة على عاتق مؤسسات المجتمع المدني. ولعلّ هذه المهمة يجب أن تبدأ منذ السنوات الأولى للدراسة، ليس بتلقين التلاميذ مبادئ التسامح الفكري، بل قبل كل شيء بنبذ التعليم الببغائي الذي ينتج فرداً منصاعا مقلّداً سهل القيادة، والعمل على التحوّل إلى تعليم ينمّي القدرة على النقد والمحاكمة والتفكير الحر، لنبني إنسانا يبتعد عن عقلية القطيع وينأى عنها.
من الضروري أن يكون واضحاً لدى الجميع، أن لا مجال لاحتكار الحقيقة واحتقار الآخر. ووجود مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وممارسة ديمقراطية سليمة، من الشروط الأساسية لإعطاء كل أزمة طارئة حجمها الحقيقي، وإيجاد الوسائل المناسبة لتفريغها من محتواها المتفجّر. كما أن مؤسسات المجتمع المدني هي المولجة بمهمة دقيقة ألا وهي تنقية الذاكرة الجماعية.
إن زرع الروح النقدية الواعية لدى الجماهير سيسمح لها برؤية التناقضات. ولا يكفي أن نركّب طبقة جديدة فوق طبقة المخزون الثابت للأفكار الدينية والاجتماعية الموروثة، دون أن نغيّر شيئا منها. ونلاحظ تلك الظاهرة لدى الذين تابعوا دراساتهم العليا في جامعات غربية، إذ أنّه حسب اللحظة والظروف تظهر الطبقة الأولى أو الثانية لديهم، وكل واحدة منها مصحوبة بموكب خطاباتها ومواقفها الخاصة المعروفة.
ولمّا كانت الأفكار تستعصي على الجماهير إذا لم تتخذ هيئةً بسيطة جدا، فانه ينبغي لكي تصبح شعبية أن تتعرض لعملية تحويل كامل لكي تنزل من طبقة إلى طبقة. وهنا تكمن أيضا وظيفة المجتمع المدني، القادر على نشر الأفكار بطريقة تعجز عنها المؤسسات الرسمية ذات الخطاب الجامد المتحجر الذي ما زالت تجتر مفرداته حتى فرغتها من معناها.
وعندما تتوصل فكرة ما بواسطة مجريات متعددة إلى الإنغراس في روح الجماهير، فإنّها تكتسب قوةً لا تقاوم، وينتج عنها سلسلةٌ من الانعكاسات والنتائج الهامة بالنسبة لكامل الوطن.
وإذا كانت الأفكار تحتاج إلى وقت طويل كي تترسخ في نفوس الجماهير، فإنّها تحتاج إلى وقت لا يقل عنه طولاً كي تخرج منها. أي أنّه من وجهة النظر الفكرية تبقى الجماهير متأخرة عن المفكرين والفلاسفة والعلماء عدة أجيال.
إن المحاجات العقلية الصارمة غير كافية لإقناع الجماهير، لأن الجماهير في تفكيرها تربط بين أشياء متنافرة ليس بينها إلا علاقات سطحية ظاهرية، كما أنّها تقوم بتعميم مباشر لحالات فردية وخصوصية، وهاتان الخاصتان وصفيتان للمنطق الجماعي. ونرى أن الوقائع ليست هي بحدّ ذاتها التي تؤثر على المخيلة الشعبية، إنّما الطريقة التي تعرض فيها هذه الوقائع.
لقد سعت أنظمة متعددة، وأحيانا كثيرة المؤسسة الدينية، إلى تشجيع مفهوم الجمهور القطيع، الذي تسهل قيادته حسب رغبات وأهواء معينة، دون أن يناقش أو يحتج. لذا كان من الشائع حدوث حركات تحريضية بين العامّة، مبنية كما رأينا على أساس عاطفي أعمى وغير منطقي أو نقدي.
والقضية ليست فقط أن نتكلم عن التسامح بمعناه الواسع، والذي أرفضه بمعنى السماح بالأمر واحتماله على مضض، لأن في ذلك بذور الفتنة القادمة، إنما التسامح بمعنى التفاهم والالتزام والتكامل. والحل كما أراه ليس بحوار النخبة فقط، ولكن قبل كل شيء بالالتفات إلى نفسية هذه الجماهير، بتحليل بنيتها والعمل على تحويلها إلى أفراد مفكرين عبر نهضة قومية اجتماعية.
أمامنا مهمة تتعلق بوجودنا الثقافي والحضاري ومستقبلنا جميعا. لا يمكن لأحد أن يقوم بهذه المهمة غير مؤسسات المجتمع المدني في دولة القانون العلمانية. ولا أستطيع أن أتخيل أي مستقبل لهذه الأمة، دون ترسيخ مفهوم المجتمع المدني بكامل مؤسساته الفاعلة والقائم على أسس ديمقراطية سليمة. إذ عندها فقط يمكن معالجة الأمور، ومناقشتها بصدق وصراحة من قبل أفراد واعين متساوين في الحقوق والواجبات وذوي ذهنية متفتحة وفكر نقدي، وحتى يكون الانتماء للوطن وليس للطائفة أو العشيرة. ولولا العلمانية لما توحدت أوروبا!
إن رؤية الأمور على حقيقتها، وعدم التهرّب من الوقائع والمستحقات، شرط أساسي لنزع فتيل الأزمات. إذ لا يمكن تجاوز المراحل الصعبة في بناء الوطن إذا بقينا نتبع سياسة طمر الرؤوس في الرمال أمام كل مشكلة، ونستمر في تكرار الخطاب الجامد نفسه في مدح الذات،
مهملين معالجة لبّ المواضيع الشائكة. نحن بحاجة إلى خطاب جديد ومقاربة شجاعة وصريحة لكل الأمور، دون أن ننسى أن كل هذا الجهد يذهب هباء منثورا إذا لم تكن وراءه جماهير واعية مفكرة. كل منّا مجنّد في حملة الوعي هذه، فما فائدة الأفكار العظيمة إذا لم نستطع نشرها وغرس فحواها في قلوب الناس؟
ليكن خطابنا حيّا،ً وفكرنا عمليا،ً وفعلنا جماهيرياً، حتى تثمر مسيرة البناء التي بدأت، ونحقق مجتمعا صلبا قويا وقادرا على تجاوز كل الصعاب والمؤامرات.
إضافة تعليق جديد