يستند تطبيق البروباغاندا حسب الأدوات التي طورها سكينر إلى نفس مفهوم الباعث والاستجابة، بحيث يتم تكييف الكائن ليؤدي استجابة مطلوبة حسب الباعث الذي يتعرض له. وهنا من المهم أن نفهم ما يحصل بالضبط في المسافة الزمنية الفاصلة بين التعرض للباعث وتنفيذ الاستجابة.
لنأخذ حالة "أحمد" وهو شخص عادي يعيش في مكان ما، ولنفرض أن حدثا ما قد جصل في العالم، لا يستطيع أحمد أن يتخذ أي موقف من هذا الحدث إذا لم تصله معلومة عن الحدث عبر إحدى حواسه الخمس. مثلا إذا لم يقرأ أو يشاهد شيئا يتعلق بالحدث، أو إذا لم يشم أو يسمع أو يلمس أو يتذوق ما يتعلق به، ولذلك فأول ما يتعامل معه أي سادة البروباغاندا، أو حكومة بيرني الخفية، لتوليد استجابة لدى أي أحمد أو أي شخص هو إحدى الحواس. مثلا يسمع أحمد عن الحدث أو يقرأ عنه أو يشاهد تقريرا عنه على التلفزيون أو الإنترنت. هنا يصبح الباعث هو ما تعرض له أحمد، وليس الحدث بحد ذاته.
بعد أن يتعرض أحمد للباعث عبر إحدى الحواس يقوم باستيعاب أو فهم ما تعرض له، وهنا يبدأ تأثير عملية التكييف، فالطريقة التي يفهم بها أحمد التقرير الذي سمعه أو شاهده عن الحدث تتعلق بالكثير من العوامل، ومنها التجارب السابقة التي تعرض لها أحمد مما يمكن ربطه بتجربة تعرضه لهذا الحدث. هنا يبدأ تدخل تقنيات التكييف التي ساهم سكينر في تطويرها، فإذا كان الشخص قد خضع بشكل واع أو غير واع لهذه التقنيات، (خلال دراسته مثلا) فمن الممكن أن يفهم الباعث بالطريقة التي تم تكييفه على عليها. وبما أن المجتمع المعاصر لا يخلو من التكييف، ولا يمكن أن تجد شخصا معزولا تماما عن مؤثرات البروباغاندا، فإن الفهم الذي سيتشكل لدى أحمد متأثر لدرجة كبيرة بمدى تأثر أحمد بالمؤثرات الخارجية عليه، وبمدى خضوعه للتكييف.
بعد أن يتم أحمد استيعاب أو إدراك الحدث بناء على ما تواصل معه عبر حواسه يحصل شيء مميز عند أحمد، فالفهم أو الإدراك الذي يتشكل عند أحمد يولد لديه مشاعر تتعلق بالحدث، بعض الأحداث قد تسبب الفرح أو الحزن أو الفخر أو الغضب أو الاستفزاز أو مشاعر أخرى، وبعض الأحداث قد لا تسبب أية مشاعر خاصة. وهنا أيضا يظهر دور التكييف، فتقنيات سكينر مدعومة بتقنيات البرمجة اللغوية العصبية التي طورها تشومسكي وآخرون تمكن من يسيطر على الباعث من تكييف أحمد ليشعر بالمشاعر التي يطلبها من يقدم له الباعث.
تعتمد استجابة أحمد للباعث على أمرين أساسيين، فهمه أو إدراكه لما حصل والمشاعر التي سببها هذا الفهم عنده. بعض الناس تستند استجابتهم للإدراك بشكل أساسي مع تأثير للعاطفة، وبعضهم تستند استجابتهم للعاطفة مع تأثير للإدراك. وبما أن تقنيات التكييف قادرة على التأثير على العاملين الأساسيين في توليد الاستجابة، وهما العاطفة والإدراك، يمكن أن نتوقع أن من يمتلكون هذه التقنيات ويطبقونها قادرون على التأثير بقوة على القرارات التي يتخذها من يخضعون لتقنياتهم.
قد تبدو الصورة أقل قتامة عندما يتعرض أحمد للباعث مباشرة بدون تخطيط من حكومة بيرني الخفية، مثلا عندما يشهد أحمد الباعث بنفسه أو يعيش التجربة مباشرة بطريقة ما، ولكن حتى في هذه الحالة يبقى أحمد معرضا لتأثير التكييف الذي مورس عليه سابقا، فإدراكه ومشاعره تتأثر مباشرة بمدى تعرضه للتكييف في السابق، وبالتالي حتى لو لم يقدم الحدث لأحمد بالطريقة التي ترغبها حكومة بيرني الخفية، فإن رد فعل أحمد سيظهر مستوى من التأثر بالتكييف يمكنهم من التبؤ بما سيفعله أحمد، وتوجيه التكييف القادم بذلك الاتجاه.
لا أعرف أحدا لم يخضع للتكييف في المجتمع المعاصر، بمن في ذلك أنا وكل من حولي، فبعيدا عن التكييف التقليدي في غرف سكينر في المدارس والجامعات، هذه الأيام أوصلت الكهرباء والبث التلفزيوني الفضائي والإنترنت التكييف في مجتمعنا إلى مستويات غير مسبوقة، ومكنت حكومة بيرني الخفية من التحكم بمليارات البشر عن بعد عبر تقنيات التكييف. وقد وصل التكييف إلى درجة أن تساهم الأسرة بتكييف أبنائها قبل دخولهم إلى المدرسة، وعندما يكونون خارجها، مطبقين بذلك مقولة سكينر
"أعطني طفلا وسأشكل منه أي شيء"
ولذلك، أنا أعتقد أن التكييف عملية جارية حولنا بشكل مستمر وبكثافة تفوق قدرتنا على التخيل، وهناك أشخاص بالغو القوة يخططون وينفذون لنا ولأبنائنا ما يريدون أن نكونه لنكون كما يريدون في حين نعتقد أننا نكون كما نحن بمطلق الحرية. الاستحمار الإعلامي أحد تقنيات التكييف، ويعتمد على نشر الأكاذيب التي تتمتع بميزتين أساسيتين:
- تبدو مستندة إلى وقائع لكي تقنع العقل وتأخذ حيزا من الإدراك يدعم تنفيذ رد الفعل المطلوب.
- تولد مشاعر محددة مسبقا لتعزز تنفيذ رد الفعل المطلوب.
ورد الفعل المطلوب يتألف من قسمين أساسيين:
- نقل الأكاذيب إلى الآخرين، أي استخدام الثقة والتأثير العاطفي بين الأشخاص لتعزيز عملية التكييف.
- اتخاذ المواقف المطلوبة من عملية التكييف.
ومن خبرتي أستطيع أن أؤكد أن العديدين ممن أتعامل معهم يخضعون للاستحمار الإعلامي وهم لا يدركون أنهم مستحمرون، فتأثير التكييف عليهم طاغ. وينطبق هذا الكلام علي أيضا، فأنا كنت أخضع للاستحمار الإعلامي سابقا، ورغم أنني أبذل جهدي لتجنب تأثيرات التكييف والخروج من غرفة سكينر، فأنا أدرك تماما أنني مازلت معرضا للوقوع في فخ الاستحمار.
المقالة القادمة بعنوان: الأسس النظرية للاستحمار 3: داخل غرفة سكينر.
إضافة تعليق جديد