كيف يعمل الاستحمار: تطبيق عملي
هذه المقالة تطبيق عملي على النظرية الواردة في مقالتي "الأسس النظرية للاستحمار 2: كيف يعمل الاستحمار"
لنأخذ حالة شخص اسمه فريد له موقف سلبي من حركة حماس نتيجة ممارساتها في سوريا، ولأنها حركة دينية مرتبطة بالاخوان المسلمين. ولنفرض أن حدثا ما قد حصل في العالم، تفاصيل الحدث غير معروفة للعموم، ولكن الإعلام يقول أن حركة حماس خطفت ثلاثة طلاب صهاينة.
يسمع فريد الخبر عدة مرات، والطريقة التي يستوعب فيها الخبر تستند إلى موقفه من حماس، فبما أن موقفه منها سلبي، وبما أنه لا توجد أية تفاصيل واضحة، سيقوم فريد بتشكيل تصور عن الحدث بناء على مواقفه المسبقة، وفي هذه الحالة هناك احتمال كبير أن يقوم فريد بصياغة قصة من خياله وإقناع نفسه بها. هذه القصة لا يمكن أن تكون إيجابية عن حركة حماس ولا بد أنها قصة سلبية، وسيتابع فريد ترميم تفاصيل القصة بالتدريج مع زيادة الأخبار الإعلامية عن الحدث، رغم أن كل هذه الأخبار الإعلامية لا تحمل أية وقائع محددة لها أية علاقة بالحدث الأصلي، فلا أحد يعرف عمليا من الذي اختطف الأشخاص الثلاثة، ولا إذا كانوا قد اختطفوا أصلا.
يتم تطوير القصة، فيظهر الخبر أنه عثر على المخطوفين قتلى، وبالنتيجة يطور فريد القصة التي يرويها لنفسه عن الحادثة، ويحمل حماس مسؤولية إضافية لقتلها هؤلاء المخطوفين. ويزداد غضبه من حماس وربما يزداد إحساسه بخيانتها أو خيانة قادتها.
لاحقا تشن إسرائيل عدوانها على غزة تحت شعار معاقبة حماس، وهنا ينفجر الغضب لدى فريد ويحمل حماس مسؤولية كل هذه التطورات، بل قد يعتبر أنها السبب الذي دفع إلى هذا التصعيد، أي أن إسرائيل تقصف غزة ردا على جرائم حماس.
بالمقابل لنأخذ حالة شخص آخر اسمه سامر له نفس الموقف من حماس، ولكنه موضوعي ولا يمكن خداعه بالإعلام، يدرك سامر من البداية أنه لا توجد أية معلومات واضحة، ويرى أن إسرائيل تتهم حماس صراحة بدون أي دليل، وهنا يروي لنفسه قصة بسيطة هي أن إسرائيل تريد استخدام حماس حجة في خطة ما. بالتدريج تتطور الأحداث وتتعزز نظرية سامر أن إسرائيل تستخدم حماس ذريعة في عملية خداع إعلامي تصل ذروتها بقصف غزة وتصفية القيادات الفلسطينية فيها.
الفرق بين الشخصين هو أن فريد صدق الدعاية الإسرائيلية وبنى موقفه على أساسها، في حين أن سامر كان حذرا ولم يصدق الدعاية الإسرائيلية كما هي. فريد روى لنفسه قصة تقول أن حماس هي المجرم، وسامر قال لنفسه أن الحقائق غير واضحة وحماس قد تكون متورطة لكنها أيضا قد تكون مجرد أداة أو ربما ضحية. موقف فريد قاده لينسجم تماما مع الموقف الاسرائيلي الذي يحمل حماس المسؤولية كاملة، في حين موقف سامر يقوده إلى النقيض، فهو يرى حماس مجرد حجة إعلامية والعملية من أساسها قد تكون من تخطيط وتنفيذ صهيوني.
إذا تكررت هذه الحادثة أو حوادث مماثلة لها، فقد يزيد ذلك فريد اقترابا من الموقف الإسرائيلي، فمن تبنى الموقف الإسرائيلي مرة مؤهل ليتبناه مرات أخرى، ولذلك يقوم الإعلام المرتبط مع إسرائيل بتشجيعه بطريقة ما، ربما يقتبسون كلامه أو يدفعون له من يدعمه إعلاميا، وربما يستضيفونه أو يهنؤونه بنجاحه أو ينشرون آراءه في مجلات كبيرة، لا بد أنهم سيقدمون له مكافأة ما لتشجيعه على تبني مثل هذه المواقف بغض النظر عن حقيقة موقف فريد من إسرائيل، فهم يعملون على تغيير موقفه بالتدريج، وفي هذه الحالة فريد يخطو خطوة إضافية باتجاههم وسيشجعونه على ذلك بالطريقة المناسبة.
هذه الطريقة في التعامل مع الآخرين تسمى علميا "التكييف" وقد تحدثت عن أسسها النظرية في الحلقة الأولى من السلسلة. باختصار التكييف تقنية تهدف لتغيير سلوك ومواقف الأشخاص عبر وضعهم في وضع معين والتأثير عليهم بمؤثرات مناسبة لفترة مناسبة. في هذه الحالة الوضع الذي وضع فيه فريد هو الموقف السلبي من حماس بسبب سلوك قادتها وعناصرها في سوريا، والمؤثر هو بروباغاندا مناسبة لفريد ليأخذ موقفا مطابقا لموقف إسرائيل، وتكرار هذه البروباغاندا للوقت المناسب يفترض أن يحول فريد من صف أعداء إسرائيل إلى صف أصدقائها.
هذا التكتيك في التكييف هو ما أسميه "الاستحمار" أي صياغة أكاذيب تبدو واقعية ليقوم فريد بتصديقها ونقلها وبناء موقفه على أساسها. أنا أحذر من الاستحمار منذ بداية الأزمة. وأتمنى أن تصل مقالتي لمن يتبنون الموقف الإسرائيلي باء على البروباغاندا الاستحمارية الإسرائيلية.
حتى الآن مازالت الوقائع مبهمة في هذه الحادثة، فالإعلام لم يصرح بالحقيقة بعد، وربما لا تعرف الحقيقة قبل سنوات، وفي انتظار ذلك سوف تظهر أحداث أخرى مشابهة يتم فيها اتهام حماس بجرائم مختلفة لدفع السوريين لاتخاذ موقف مؤيد لإسرائيل في مواضيع مشابهة، وللأسف يبدو لي أن فريد ليس فريدا في موقفه هذا، ولكن يكون فريدا في مواقفه القادمة، للأسف.
إضافة تعليق جديد