أيمن الدقر
كعادته في القهوة كان بانتظاري.. الصديق اليومي الذي قفز من مكانه مجرد أن رآني خطوت نحو الباب، أمسكن بيدي قائلاً: ادخل يا رجل، أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة.
قلت: (طوّل بالك).
قال بسرعة: ما موضوع قانون (عقوبة معاداة السامية) الذي كتبتم عنه الأسبوع الماضي في مجلتكم؟.. إن الإنسان ليحار أمام قانون كهذا، ولكن على ماذا بني هذا القانون؟ وماذا قصدتم بكلمة (ليس كل اليهود ساميين)؟ وكيف ترون أن الرئيس (بوش) فضّل بهذا القانون اليهود على العالم..؟ هل هذا صحيح أم (تخبيص)؟..
أجبته: اسمع (يا أخانا) أولاً علينا أن نعرف ما معنى مصطلح (السامية) وهل هو جنسية أم عرق أم لهجة أم ماذا؟
قال: تفضل أنا مصغ إليك..
قلت: ليس في العالم مؤرخ أو باحث واحد موافق على أن السامية هي أصل عرقي، إذ لا يوجد مرجع أو وثيقة يؤكد على ذلك سوى (التوراة).
سألني: وما الرواية أقصد الوثيقة التوراتية؟
أجبته: الرواية ما جاء في (سفر التكوين) من أن (الساميين) أوبني سام هم الذين انحدروا من صلب (سام) بن (نوح) وهم خمسة: (عيلام(1) أثور، أرفكشاد، لود، أرام) والنبي (إبراهيم) أحد أحفاد (أرام) وقد ورد ذكره في التوراة (آرامياً تائهاً كان أبي)(2) وذلك على لسان يعقوب النبي.
وانحدر من (إبراهيم)(3) إسحق وإسماعيل، أما الأول فقد أنجب ولدين توءمين (يعقوب، عيسو)(4) ويعقوب هو النبي (إسرائيل) أبو الأسباط وأحدهم (لاوي)(5) الذي انحدر منه سيدنا (موسى) عليه السلام.
أما إسماعيل فقد تزوج من امرأة مصرية وانحدر منه (العرب)(6)، هذا باختصار شديد، وبالطبع (هذا رأي يهودي توراتي) إلا أنه يؤكد (حسب توراتهم) بأن العرب أيضاً ساميين وليس اليهود وحدهم ساميين كما يحاول (اليهود) الآن ترويجه، فكيف للعرب إذن أن يعادوا الساميين وهم ساميون؟!.وبالطبع فإن القانون المذكور وجد من أجل إخافة العرب، وإيقاف الانتقادات الأوروبية لسياسة إسرائيل الوحشية.
وفي كل الأحوال يا صديقي فإن المؤرخين رفضوا رفضاً قاطعاً الرأي السابق (التوراتي) ومن المفيد أن أذكر لك بأن أول من طرح معنى السامية هو العالم النمساوي (سلوتزر) وذلك عام (1781م) وشاع استعمال المصطلح منذ ذلك الحين، وأصبح المفهوم للسامية علماً يبحث في مجموعة الشعوب القديمة التي عاشت في المنطقة، وبالتالي فإن المفهوم التوراتي ذاته يؤكد كما أسلفت على أن (الساميين) ليسوا هم اليهود وحدهم، ويجمع العلماء بأن الساميين هم الشعوب التي يجمع بينها العامل اللغوي ويتكلمون اللغة السامية، وبالطبع فالصهاينة اليوم ينقضون المفهوم (التوراتي) الذي وضعوه هم، فكيف لا يتناقضون معنا؟!..
قال: ولكن كيف وجدتم إذن بأن ليس كل اليهود ساميين؟
أجبته: يقسم بعض الباحثين يهود العالم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: اليهود (الشرقيون) وهم الذين غادروا فلسطين بعد السبي البابلي إلى العراق وإيران وأفغانستان ودلتا مصر الغربية، وهم أبناء المنطقة لهم مالها وعليهم ما عليها وعلى شعوبها، ومنهم اليهود العرب، الخ...
الثاني: يهود (السفاردين) الذين (تهوّدوا) أي دخلوا الديانة اليهودية بعد أن تعرفوا عليها من اليهود الذين هاجروا إلى شبه الجزيرة (الإيبيرية) خاصة بعد الفتح الإسلامي لها عام 711م.
الثالث: يهود (الأشكناز) المتحدّرون من أصل ألماني، وهؤلاء أيضاً (تهودوا) أي دخلوا اليهودية وانتشروا في القرون الوسطى في البلدان التي تتحدث الألمانية، فكيف للأشكناز والسفاردين مثلاً أن يدّعوا السامية (وفقاً للتوراة) ويسكنون أرضاً ليست لهم، فهل وعد الرب الألمان بأرض تفيض لبناً وعسلاً؟؟ أليس هذا مخالف للنص التوراتي اليهودي الذي تحدثنا عنه؟!
وبناء عليه قلنا في افتتاحية العدد السابق إنه ليس كل اليهود (ساميين).. انطلاقاً من المفهوم التوراتي ذاته، أي بطريقة (من فمك أدينك).
قال الصديق: إذن لماذا يتمسك (بوش) باليهود ويعتبرهم الساميين الوحيدين؟
قلت: إنه يرى فيهم (شعب الله المختار).
قال: وما القصد من شعب الله المختار؟
أجبته: في سفر التكوين أيضاً تقرأ قصة الخلق.. وهي نسخة عن قصة الخلق البابلي والتي أرجع أغلب الباحثين قصة الخلق (التوراتي) إليها، إذ يرى أغلبهم أنها وضعت بعد السبي البابلي حوالي 650 ق. م (حيث تعلم اليهود هناك القصة، وجعلوا من مردوك البابلي يهوه).. الخ، وبالطبع هذا ليس صلب حديثنا..
تبدأ قصة الخلق (التوراتية) (بخلق السموات والأرض في اليوم الأول، ثم المياه في اليوم الثاني، ثم اليابسة والزرع في الثالث، وفي الرابع الليل والنهار، والنجوم والحيوانات في الخامس، ثم الإنسان في اليوم السادس).
قال الصديق: أتقصد خلق آدم؟
قلت: لا، لقد خلق الناس جماعات قبل أن يخلق آدم وخاطبهم الرب (حسب التوراة) بلغة الجمع إذ قال(7): (أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض).
قال الصديق: أليس آدم أول الخلق؟
قلت له: مهلاً.. فإن (آدم)(8) خلق في اليوم الثامن، وتابعت قبل أن يقاطعني: وعندما أتم الإله خلقه في اليوم السادس، استراح في اليوم السابع، ويسميه اليهود يوم راحة الرب (يوم السبت)(9) وفي اليوم الثامن خلق (آدم من تراب) وقال على شاكلتنا خلقناه (أي كالإله) ثم خلق حواء، ثم طردهما من الجنة حتى آخر القصة المعروفة..
قال الصديق: إذن هناك من خلق في اليوم السادس، أي قبل آدم بيومين..وما المشكلة في (فرق يومين)؟
أجبته: يقول الدكتور (فرنسيس داندسن) في تفسير الكتاب المقدس، الصادر عن جماعة (انتر فارستي) في الطبعة العربية الصادرة عن دار النفير: إن كل يوم في الخليقة يشير إلى عصر جيولوجي، وعلاوة على هذا فقد استعملت كلمة (يوم) أحياناً للإشارة إلى مدة من الزمن غير محدودة.
قال: وما الفرق إن كان اليوم كيومنا هذا أم أطول.؟
أجبته: هذا يعني بأن المتطرفين من اليهود يرون أن الذين خلقوا في اليوم السادس، أعطوا فرصة زمنية للتطور(مدة من الزمن غير محدودة) أو(عصر جيولوجي) مدة كفيلة بأن يتحول الإنسان فيها(من بدائي إلى مكافىء لآدم الذي خلق على شاكلة الرب).
ولذلك عندما طرد آدم من الجنة وأنجب (قايين)(10) و(هابيل)(11) فإن قايين تزوج(12) من امرأة وأنجب منها وبنى مدينة، ولم يذكر التوراة أن لآدم بنات، فمن أين جاء بالزوجة؟ ولمن بنى المدينة!؟
سألني الصديق: هل تعني أنه تزوج من النساء اللائي خلقهن في اليوم السادس؟
قلت: نعم والدليل على ذلك مايلي:
عندما تحدث (التوراة) عن طوفان نوح، جاء فيه(13): (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن (أبناء الله) رأوا بنات (الناس) أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهن نساء...) ويفسر المتطرفون اليهود ماسبق، أن هناك أبناء (ناس) وهم الذين ولدوا في اليوم السادس، وهناك أبناء (الله) الذين تناسلوا من قايين وجاء منهم اليهود أو ما سمي بـ(الساميين) أي أن المتطرفون اليهود يعتبرون أنفسهم أبناء (الله) وكل ماعداهم أبناء (الناس) والذين يطلقون عليهم اسم(الأغيار) وبالعبرية (الغوييم).. النتيجة أن أبناء الله هم (شعب الله المختار) وهم (أرباب) على الأرض، ولذلك لن تجد في (التوراة)(14) أي ذكر (للجنة والنار) إذ إن (يوم الحساب) غير موجود في (التوراة) لأن الأرباب (لا يحاسَبون) وهذا يفسر الوحشية الإسرائيلية والمذابح التي ترتكبها إسرائيل، إذ إن الإسرائيليين فاقدون للرادع الديني وبالتالي الأخلاقي، وفرصتهم الوحيدة للحياة هي اللحظة التي يعيشونها..
قال الصديق مندهشاً: هذا خطير يا رجل! وهل يعقل أن الإدارة الأمريكية مقتنعة بهذا الكلام وترى في اليهود شعباً أفضل من شعوب الأرض ولذلك أرادت سن قانون (العداء للسامية)؟..
قلت: نعم، يبدو أنهم مقتنعون بهذا الكلام، علماً بأنه ليس جميع اليهود يؤمنون بذلك، عدا المتطرفين منهم الذين يروجون لهذه المفاهيم في المدارس الدينية اليهودية، ويجب أن تعلم بأن الإدارة الأمريكية تحمل ثقافة (توراتية) وهي إدارة متطرفة أكثر من اليهود أنفسهم، وهم ما يدعون (بالمسيحية المتصهينة).
سألني الصديق: وكيف تتصهين المسيحية واليهود متهمون بصلب المسيح؟!
قلت: إن المسيحيين المتصهينين وضعوا كل المبررات لليهود التي تنقذهم من تهمة جريمة الصلب.
قال: كيف؟
قلت: إنهم يرون أن المسيح جاء إلى الأرض أصلاً كي يُصلب ويحقق مشيئة الله، فيفدي البشرية، ويرون أنه من الطبيعي أن يسلمه أحد لليهود وأن يتسبب اليهود بصلبه، وإلاّ فكيف يمكن أن يفدي المسيح البشرية ويصلب إذا لم يصلبه أحد؟ وبمعنى آخر، يرون بأن اليهود (ويهوذا الأسخريوطي) الخائن الذي فتن على المسيح بعد العشاء الأخير، هؤلاء جميعهم نفذوا مشيئة الله(صلب المسيح) وبذلك يبرؤون اليهود من دم المسيح..
قال: وهل يعقل أن يكون الرئيس (بوش) متطرفاً إلى هذه الدرجة؟
قلت: نعم يعقل ذلك، هل تذكر حملته الانتخابية عندما تنافس مع (أل غور)؟ قال: نعم أذكر.
قلت: يومها فجر (أل غور) فضيحة لبوش مفادها بأن الأخير (مدمن للكحول) وقد ألقي القبض عليه قبل ثلاثين عاماً وهو يقود سيارته مخموراً، واضطر بوش وقتها أن يعلن بأنه كان (مدمن كحول) وقال بأنه مر بعدها بصحوة دينية عام 1986 جعلته يتوقف عن الإدمان..
سألني مستغرباً: وما علاقة الإدمان بالتطرف!
قلت: إن كان ما قاله بوش صادقاً في ادعاء الصحوة الدينية، فهو كأي مدمن يميل عند تدينه إلى (المغالاة بالتطرف) خاصة وأنه محاط بمجموعة من اليمين المتطرف أيضاً..
قال: إذن فالموضوع برمته له علاقة بإسرائيل..
قلت: طبعاً، فما معنى صدور قانون يعاقب من (يعادي السامية)؟.. ومن الذي عادى السامية عبر التاريخ؟ ولو نظرت قليلاً إلى ما سبق أن تحدثنا عنه لوجدت أن تسمية القانون (معاداة السامية) ناتج عن جهل أو تجاهل من الإدارة الأمريكية بأن العرب أيضاً (ساميون) ولوجدت القانون عنصرياً جداً، فما معنى أن يخص السامية دون الأمم الأخرى؟ وهل الخلاف مع بقية الأمم محللة ومع إسرائيل محرمة!
إن التغلغل (اليهودي) وسيادة مفهوم (شعب الله المختار) بات واضحاً وعلنياً وأصبح من واجب أي رجل في العالم أن يوضح حجم هذا الخطأ وما يجره من ويلات على شعوب الأرض، ولك أن تعلم أيها الصديق بأن (قانوناً فرنسياً) بنفس الاتجاه هو في طور الدراسة الآن (وقد سبق لفرنسا أن أصدرت قانوناً عام 1990 لم يلق له العرب بالاً) يعاقب القانون الفرنسي من (يشك) بصحة (الهولوكوست) لمجرد (الشك) فقط! أليس في هذه القوانين اعتداء على حقوق الإنسان وعلى الوثيقة التي تقول: يولد الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات دون تمييز من أي نوع ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين.. وهو اعتداء على هيئة الأمم المتحدة وقراراتها وتمزيقاً للقرار رقم(3379) للجمعية العامة الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، وهو اعتداء على تقارير وملفات منظمة العفو الدولية التي تصف إسرائيل بالعنصرية، ويشكل القانون حماية لإسرائيل من انتقادها، أو مساءلتها، وهو قانون يخلط بين (السامية) و(الشعوب اليهودية ذات الأصول المختلفة التي احتلت فلسطين وحولتها إلى إسرائيل) من أجل أن يربط (الصهيونية بالسامية) وإظهار أن الدفاع عن الأراضي العربية المحتلة أو انتقاد سياسات إسرائيل هو اعتداء عرقي على اليهود، إضافة إلى (شرعنة) عمليات القتل والتدمير التي ترتكبها إسرائيل في الضفة والقطاع وإعطائها صفة (الدفاع عن السامية).
وأخيراً ياصديقي عليك أن تعلم أن جميع التفسيرات التي وردت في حوارنا هي تفسيرات لايؤمن بها كل يهود العالم، إنما هي تفسيرات المتطرفين من رجالات الصهاينة، وحكام إسرائيل، ويحاولون بثها في عقول الناشئة اليهود، و..
ولم نتابع الحديث، لأننا خشينا أن يفسر حديثنا بالعداء للسامية!!؟
هوامش
(1) (وولد لسام أيضاً بنون وهو أبو جميع بني عابر أخو يافث الأكبر. بنو سام عيلام وأشور وأرفكشاد ولود وأرام) (تكوين 10: 22).
(2) (ثم تجيء وتقول بين يدي الرب إلهك إن أبي كان أرامياً تائهاً فهبط مصر ونزل هناك في رجال قلائل فصار ثم أمة عظيمة شديدة كبيرة) (تثنية 25: 5).
(3) (وأما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وهاأنذا أباركه وأنميه وأكثره جداً جداً ويلد اثني عشر رئيساً وأجعله أمة عظيمة، غير أن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة) (تكوين 17: 20).
(4) (فلما كملت أيام حملها إذا في جوفها توءمان، فخرج الأول أكلف اللون كله كفروة شعر فسموه عيسو، ثم خرج أخوه ويده قابضة على عقب عيسو فدعي يعقوب) (تكوين 25: 24).
(5) (وحملت أيضاً وولدت ابناً وقالت هذه المرة ينعطف إلي زوجي لأني قد ولدت له ثلاثة بنين وسمته لاوي) (تكوين 30: 34).
(6) (وولدت هاجر لأبرام ابناً فسمى أبرام ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل) (تكوين 16: 15).
(7) راجع مفصل: العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة.
(8) (فأكملت السموات والأرض وكل جندها... وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية) (تكوين 2: 1).
(9) (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأنه فيه استراح) (تكوين 3: 1).
(10) قايين هو قابيل.
(11) (وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقالت اقتنيت رجلاً من عند الرب، ثم عادت فولدت أخاه هابيل) (تكوين 4: 1).
(12) وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت له حنوك، وكان يبني مدينة، فدعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك (تكوين 4: 17).
(13) (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون في الأرض، وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مئة وعشرين سنة، كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً) (تكوين 6: 1).
(14) التوراة: هو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم فقط.
كعادته في القهوة كان بانتظاري.. الصديق اليومي الذي قفز من مكانه مجرد أن رآني خطوت نحو الباب، أمسكن بيدي قائلاً: ادخل يا رجل، أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة.
قلت: (طوّل بالك).
قال بسرعة: ما موضوع قانون (عقوبة معاداة السامية) الذي كتبتم عنه الأسبوع الماضي في مجلتكم؟.. إن الإنسان ليحار أمام قانون كهذا، ولكن على ماذا بني هذا القانون؟ وماذا قصدتم بكلمة (ليس كل اليهود ساميين)؟ وكيف ترون أن الرئيس (بوش) فضّل بهذا القانون اليهود على العالم..؟ هل هذا صحيح أم (تخبيص)؟..
أجبته: اسمع (يا أخانا) أولاً علينا أن نعرف ما معنى مصطلح (السامية) وهل هو جنسية أم عرق أم لهجة أم ماذا؟
قال: تفضل أنا مصغ إليك..
قلت: ليس في العالم مؤرخ أو باحث واحد موافق على أن السامية هي أصل عرقي، إذ لا يوجد مرجع أو وثيقة يؤكد على ذلك سوى (التوراة).
سألني: وما الرواية أقصد الوثيقة التوراتية؟
أجبته: الرواية ما جاء في (سفر التكوين) من أن (الساميين) أوبني سام هم الذين انحدروا من صلب (سام) بن (نوح) وهم خمسة: (عيلام(1) أثور، أرفكشاد، لود، أرام) والنبي (إبراهيم) أحد أحفاد (أرام) وقد ورد ذكره في التوراة (آرامياً تائهاً كان أبي)(2) وذلك على لسان يعقوب النبي.
وانحدر من (إبراهيم)(3) إسحق وإسماعيل، أما الأول فقد أنجب ولدين توءمين (يعقوب، عيسو)(4) ويعقوب هو النبي (إسرائيل) أبو الأسباط وأحدهم (لاوي)(5) الذي انحدر منه سيدنا (موسى) عليه السلام.
أما إسماعيل فقد تزوج من امرأة مصرية وانحدر منه (العرب)(6)، هذا باختصار شديد، وبالطبع (هذا رأي يهودي توراتي) إلا أنه يؤكد (حسب توراتهم) بأن العرب أيضاً ساميين وليس اليهود وحدهم ساميين كما يحاول (اليهود) الآن ترويجه، فكيف للعرب إذن أن يعادوا الساميين وهم ساميون؟!.وبالطبع فإن القانون المذكور وجد من أجل إخافة العرب، وإيقاف الانتقادات الأوروبية لسياسة إسرائيل الوحشية.
وفي كل الأحوال يا صديقي فإن المؤرخين رفضوا رفضاً قاطعاً الرأي السابق (التوراتي) ومن المفيد أن أذكر لك بأن أول من طرح معنى السامية هو العالم النمساوي (سلوتزر) وذلك عام (1781م) وشاع استعمال المصطلح منذ ذلك الحين، وأصبح المفهوم للسامية علماً يبحث في مجموعة الشعوب القديمة التي عاشت في المنطقة، وبالتالي فإن المفهوم التوراتي ذاته يؤكد كما أسلفت على أن (الساميين) ليسوا هم اليهود وحدهم، ويجمع العلماء بأن الساميين هم الشعوب التي يجمع بينها العامل اللغوي ويتكلمون اللغة السامية، وبالطبع فالصهاينة اليوم ينقضون المفهوم (التوراتي) الذي وضعوه هم، فكيف لا يتناقضون معنا؟!..
قال: ولكن كيف وجدتم إذن بأن ليس كل اليهود ساميين؟
أجبته: يقسم بعض الباحثين يهود العالم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: اليهود (الشرقيون) وهم الذين غادروا فلسطين بعد السبي البابلي إلى العراق وإيران وأفغانستان ودلتا مصر الغربية، وهم أبناء المنطقة لهم مالها وعليهم ما عليها وعلى شعوبها، ومنهم اليهود العرب، الخ...
الثاني: يهود (السفاردين) الذين (تهوّدوا) أي دخلوا الديانة اليهودية بعد أن تعرفوا عليها من اليهود الذين هاجروا إلى شبه الجزيرة (الإيبيرية) خاصة بعد الفتح الإسلامي لها عام 711م.
الثالث: يهود (الأشكناز) المتحدّرون من أصل ألماني، وهؤلاء أيضاً (تهودوا) أي دخلوا اليهودية وانتشروا في القرون الوسطى في البلدان التي تتحدث الألمانية، فكيف للأشكناز والسفاردين مثلاً أن يدّعوا السامية (وفقاً للتوراة) ويسكنون أرضاً ليست لهم، فهل وعد الرب الألمان بأرض تفيض لبناً وعسلاً؟؟ أليس هذا مخالف للنص التوراتي اليهودي الذي تحدثنا عنه؟!
وبناء عليه قلنا في افتتاحية العدد السابق إنه ليس كل اليهود (ساميين).. انطلاقاً من المفهوم التوراتي ذاته، أي بطريقة (من فمك أدينك).
قال الصديق: إذن لماذا يتمسك (بوش) باليهود ويعتبرهم الساميين الوحيدين؟
قلت: إنه يرى فيهم (شعب الله المختار).
قال: وما القصد من شعب الله المختار؟
أجبته: في سفر التكوين أيضاً تقرأ قصة الخلق.. وهي نسخة عن قصة الخلق البابلي والتي أرجع أغلب الباحثين قصة الخلق (التوراتي) إليها، إذ يرى أغلبهم أنها وضعت بعد السبي البابلي حوالي 650 ق. م (حيث تعلم اليهود هناك القصة، وجعلوا من مردوك البابلي يهوه).. الخ، وبالطبع هذا ليس صلب حديثنا..
تبدأ قصة الخلق (التوراتية) (بخلق السموات والأرض في اليوم الأول، ثم المياه في اليوم الثاني، ثم اليابسة والزرع في الثالث، وفي الرابع الليل والنهار، والنجوم والحيوانات في الخامس، ثم الإنسان في اليوم السادس).
قال الصديق: أتقصد خلق آدم؟
قلت: لا، لقد خلق الناس جماعات قبل أن يخلق آدم وخاطبهم الرب (حسب التوراة) بلغة الجمع إذ قال(7): (أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض).
قال الصديق: أليس آدم أول الخلق؟
قلت له: مهلاً.. فإن (آدم)(8) خلق في اليوم الثامن، وتابعت قبل أن يقاطعني: وعندما أتم الإله خلقه في اليوم السادس، استراح في اليوم السابع، ويسميه اليهود يوم راحة الرب (يوم السبت)(9) وفي اليوم الثامن خلق (آدم من تراب) وقال على شاكلتنا خلقناه (أي كالإله) ثم خلق حواء، ثم طردهما من الجنة حتى آخر القصة المعروفة..
قال الصديق: إذن هناك من خلق في اليوم السادس، أي قبل آدم بيومين..وما المشكلة في (فرق يومين)؟
أجبته: يقول الدكتور (فرنسيس داندسن) في تفسير الكتاب المقدس، الصادر عن جماعة (انتر فارستي) في الطبعة العربية الصادرة عن دار النفير: إن كل يوم في الخليقة يشير إلى عصر جيولوجي، وعلاوة على هذا فقد استعملت كلمة (يوم) أحياناً للإشارة إلى مدة من الزمن غير محدودة.
قال: وما الفرق إن كان اليوم كيومنا هذا أم أطول.؟
أجبته: هذا يعني بأن المتطرفين من اليهود يرون أن الذين خلقوا في اليوم السادس، أعطوا فرصة زمنية للتطور(مدة من الزمن غير محدودة) أو(عصر جيولوجي) مدة كفيلة بأن يتحول الإنسان فيها(من بدائي إلى مكافىء لآدم الذي خلق على شاكلة الرب).
ولذلك عندما طرد آدم من الجنة وأنجب (قايين)(10) و(هابيل)(11) فإن قايين تزوج(12) من امرأة وأنجب منها وبنى مدينة، ولم يذكر التوراة أن لآدم بنات، فمن أين جاء بالزوجة؟ ولمن بنى المدينة!؟
سألني الصديق: هل تعني أنه تزوج من النساء اللائي خلقهن في اليوم السادس؟
قلت: نعم والدليل على ذلك مايلي:
عندما تحدث (التوراة) عن طوفان نوح، جاء فيه(13): (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن (أبناء الله) رأوا بنات (الناس) أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهن نساء...) ويفسر المتطرفون اليهود ماسبق، أن هناك أبناء (ناس) وهم الذين ولدوا في اليوم السادس، وهناك أبناء (الله) الذين تناسلوا من قايين وجاء منهم اليهود أو ما سمي بـ(الساميين) أي أن المتطرفون اليهود يعتبرون أنفسهم أبناء (الله) وكل ماعداهم أبناء (الناس) والذين يطلقون عليهم اسم(الأغيار) وبالعبرية (الغوييم).. النتيجة أن أبناء الله هم (شعب الله المختار) وهم (أرباب) على الأرض، ولذلك لن تجد في (التوراة)(14) أي ذكر (للجنة والنار) إذ إن (يوم الحساب) غير موجود في (التوراة) لأن الأرباب (لا يحاسَبون) وهذا يفسر الوحشية الإسرائيلية والمذابح التي ترتكبها إسرائيل، إذ إن الإسرائيليين فاقدون للرادع الديني وبالتالي الأخلاقي، وفرصتهم الوحيدة للحياة هي اللحظة التي يعيشونها..
قال الصديق مندهشاً: هذا خطير يا رجل! وهل يعقل أن الإدارة الأمريكية مقتنعة بهذا الكلام وترى في اليهود شعباً أفضل من شعوب الأرض ولذلك أرادت سن قانون (العداء للسامية)؟..
قلت: نعم، يبدو أنهم مقتنعون بهذا الكلام، علماً بأنه ليس جميع اليهود يؤمنون بذلك، عدا المتطرفين منهم الذين يروجون لهذه المفاهيم في المدارس الدينية اليهودية، ويجب أن تعلم بأن الإدارة الأمريكية تحمل ثقافة (توراتية) وهي إدارة متطرفة أكثر من اليهود أنفسهم، وهم ما يدعون (بالمسيحية المتصهينة).
سألني الصديق: وكيف تتصهين المسيحية واليهود متهمون بصلب المسيح؟!
قلت: إن المسيحيين المتصهينين وضعوا كل المبررات لليهود التي تنقذهم من تهمة جريمة الصلب.
قال: كيف؟
قلت: إنهم يرون أن المسيح جاء إلى الأرض أصلاً كي يُصلب ويحقق مشيئة الله، فيفدي البشرية، ويرون أنه من الطبيعي أن يسلمه أحد لليهود وأن يتسبب اليهود بصلبه، وإلاّ فكيف يمكن أن يفدي المسيح البشرية ويصلب إذا لم يصلبه أحد؟ وبمعنى آخر، يرون بأن اليهود (ويهوذا الأسخريوطي) الخائن الذي فتن على المسيح بعد العشاء الأخير، هؤلاء جميعهم نفذوا مشيئة الله(صلب المسيح) وبذلك يبرؤون اليهود من دم المسيح..
قال: وهل يعقل أن يكون الرئيس (بوش) متطرفاً إلى هذه الدرجة؟
قلت: نعم يعقل ذلك، هل تذكر حملته الانتخابية عندما تنافس مع (أل غور)؟ قال: نعم أذكر.
قلت: يومها فجر (أل غور) فضيحة لبوش مفادها بأن الأخير (مدمن للكحول) وقد ألقي القبض عليه قبل ثلاثين عاماً وهو يقود سيارته مخموراً، واضطر بوش وقتها أن يعلن بأنه كان (مدمن كحول) وقال بأنه مر بعدها بصحوة دينية عام 1986 جعلته يتوقف عن الإدمان..
سألني مستغرباً: وما علاقة الإدمان بالتطرف!
قلت: إن كان ما قاله بوش صادقاً في ادعاء الصحوة الدينية، فهو كأي مدمن يميل عند تدينه إلى (المغالاة بالتطرف) خاصة وأنه محاط بمجموعة من اليمين المتطرف أيضاً..
قال: إذن فالموضوع برمته له علاقة بإسرائيل..
قلت: طبعاً، فما معنى صدور قانون يعاقب من (يعادي السامية)؟.. ومن الذي عادى السامية عبر التاريخ؟ ولو نظرت قليلاً إلى ما سبق أن تحدثنا عنه لوجدت أن تسمية القانون (معاداة السامية) ناتج عن جهل أو تجاهل من الإدارة الأمريكية بأن العرب أيضاً (ساميون) ولوجدت القانون عنصرياً جداً، فما معنى أن يخص السامية دون الأمم الأخرى؟ وهل الخلاف مع بقية الأمم محللة ومع إسرائيل محرمة!
إن التغلغل (اليهودي) وسيادة مفهوم (شعب الله المختار) بات واضحاً وعلنياً وأصبح من واجب أي رجل في العالم أن يوضح حجم هذا الخطأ وما يجره من ويلات على شعوب الأرض، ولك أن تعلم أيها الصديق بأن (قانوناً فرنسياً) بنفس الاتجاه هو في طور الدراسة الآن (وقد سبق لفرنسا أن أصدرت قانوناً عام 1990 لم يلق له العرب بالاً) يعاقب القانون الفرنسي من (يشك) بصحة (الهولوكوست) لمجرد (الشك) فقط! أليس في هذه القوانين اعتداء على حقوق الإنسان وعلى الوثيقة التي تقول: يولد الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات دون تمييز من أي نوع ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين.. وهو اعتداء على هيئة الأمم المتحدة وقراراتها وتمزيقاً للقرار رقم(3379) للجمعية العامة الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، وهو اعتداء على تقارير وملفات منظمة العفو الدولية التي تصف إسرائيل بالعنصرية، ويشكل القانون حماية لإسرائيل من انتقادها، أو مساءلتها، وهو قانون يخلط بين (السامية) و(الشعوب اليهودية ذات الأصول المختلفة التي احتلت فلسطين وحولتها إلى إسرائيل) من أجل أن يربط (الصهيونية بالسامية) وإظهار أن الدفاع عن الأراضي العربية المحتلة أو انتقاد سياسات إسرائيل هو اعتداء عرقي على اليهود، إضافة إلى (شرعنة) عمليات القتل والتدمير التي ترتكبها إسرائيل في الضفة والقطاع وإعطائها صفة (الدفاع عن السامية).
وأخيراً ياصديقي عليك أن تعلم أن جميع التفسيرات التي وردت في حوارنا هي تفسيرات لايؤمن بها كل يهود العالم، إنما هي تفسيرات المتطرفين من رجالات الصهاينة، وحكام إسرائيل، ويحاولون بثها في عقول الناشئة اليهود، و..
ولم نتابع الحديث، لأننا خشينا أن يفسر حديثنا بالعداء للسامية!!؟
هوامش
(1) (وولد لسام أيضاً بنون وهو أبو جميع بني عابر أخو يافث الأكبر. بنو سام عيلام وأشور وأرفكشاد ولود وأرام) (تكوين 10: 22).
(2) (ثم تجيء وتقول بين يدي الرب إلهك إن أبي كان أرامياً تائهاً فهبط مصر ونزل هناك في رجال قلائل فصار ثم أمة عظيمة شديدة كبيرة) (تثنية 25: 5).
(3) (وأما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وهاأنذا أباركه وأنميه وأكثره جداً جداً ويلد اثني عشر رئيساً وأجعله أمة عظيمة، غير أن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة) (تكوين 17: 20).
(4) (فلما كملت أيام حملها إذا في جوفها توءمان، فخرج الأول أكلف اللون كله كفروة شعر فسموه عيسو، ثم خرج أخوه ويده قابضة على عقب عيسو فدعي يعقوب) (تكوين 25: 24).
(5) (وحملت أيضاً وولدت ابناً وقالت هذه المرة ينعطف إلي زوجي لأني قد ولدت له ثلاثة بنين وسمته لاوي) (تكوين 30: 34).
(6) (وولدت هاجر لأبرام ابناً فسمى أبرام ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل) (تكوين 16: 15).
(7) راجع مفصل: العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة.
(8) (فأكملت السموات والأرض وكل جندها... وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية) (تكوين 2: 1).
(9) (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأنه فيه استراح) (تكوين 3: 1).
(10) قايين هو قابيل.
(11) (وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقالت اقتنيت رجلاً من عند الرب، ثم عادت فولدت أخاه هابيل) (تكوين 4: 1).
(12) وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت له حنوك، وكان يبني مدينة، فدعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك (تكوين 4: 17).
(13) (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون في الأرض، وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مئة وعشرين سنة، كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً) (تكوين 6: 1).
(14) التوراة: هو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم فقط.
المنتديات
إضافة تعليق جديد