الشطرنج،
من منا لم يسمع عن هذه اللعبة، لعبة مليئة بالاحتمالات والاسرار والمفاجآت، تحتاج الى تركيز عالي وجلد منقطع النظير. تنظر الى رقعة مؤلفة من 64 مربع عليهما تدور ملحمة طاحنة كل منهم يحاول الاطاحة بملك خصمه. البعض يلعبها هواية واخرون احترفوها لكن منهم من اصابهم الجنون. تتميز هذه اللعبة عن غيرها انها لا تعتمد بشكل عام عن مدى حجم قوتك، بل على مدى تأثير جنودك بأرض المعركة، بعض جماليات هذه اللعبة ان على ثبيل المثال انت تضحي بالعديد من القطع ومن ثم تقضي على الملك في لوحة فنية تترك أثر جميل فيك وحتى في خصمك، كما حصل مع اللاعب نايدورف امام جلوكسبرغ حيث استطاع التغلب عليه عبر التضحية بالقطعة تلو الاخرة لينهي عليه ببيدق تحسبه لا حول له ولا قوة. أيضا من احد مميزات الشطرنج او اذا امكنا القول حسنات\سيئات حسب من وجه نظر من، انه اللعبة لا تنتهي الا اذا حصل كش مات او انسحب اللاعب, بمعنى اخر انه حتى لو كان هناك افضلية للاعب على اخر, يجب على اللاعب ان يبقى على الأفضلية الى انت تنتهي اللعبة, فكم من كثير من الأدوار خسر الاعب الذي كان لديه افضلية ساحقة طول المباراة وخسرها لمجرد نقلة خاطئة, بعض الأدوار تتقلب بين اللاعبين, تارة يكون له الأفضلية وتارة تراه يكافح للتعادل, من الصعب جدا لعب النقلات الصحيحة كل نقلة !, لهذا يطلقون عليه صفة " اللعبة المعاقبة " أي انه مع كل هذه النقلات الجيدة, هفوة واحدة منك سوف يعاقبك عليها خصمك ويكسب الدور.
تطورت اللعبة على مر العصور، وتغيرت قوانينها مرارا وتكرار حتى أصبحت كما نراها الان. أقدم لعبة شطرنج وجدت لحد الان هي من القرن الخامس عشر بين مؤرخ من بغداد وتلميذه، لذا يمكننا القول ان هذه اللعبة قديما نسبيا، الا ان كل هذه الفترة لم تتطور اللعبة لهذا المستوى الا في الآونة الأخيرة، فمع اختراع الحاسوب وتطوره أصبح الان بإمكان اللاعبين الاستعانة به لاكتشاف نقلات وتحليل الأدوار لم يكن من قبل من اللاعبين القدامة استخدامه. فعلى سبيل المثال الاعب الكبير بوبي فيشر كان يجلس مطولا لتحليل الأدوار واكتشاف النقلات بنفسه وكان هذا يأخذ كل وقته. التطور كان نوعيا ويمكنك ان تلمسه بالواقع من خلال قراءة بعض المعطيات البسيطة، فعلى سبيل المثال كان في الماضي معدل الحصول على أستاذ دولي (جي ام) هو 26 عاما بينما أصغر أستاذ دولي في وقتنا الان هو " ابهيمانو " الذي لم يتجاوز ال 13 عشر من عمره! وهذا ان دل فإنما يدل على مدى تطور اللعبة ومدى سهولة الوصول اليها.
فعليا بدأت برمجة المحركات الشطرنجية عبر الحاسوب بنصف القرن المنصرم، لكن تلك البرامج لم تكن بقوة عشر أضعف محرك شطرنج موجود حاليا حيث كانت المحركات تستخدم لأغراض علمية لا للمنافسة، حتى ان بروفسور في جامعة ام أي تي قال حينها ان المحركات لن تستطع ان تغلب طفلا في العشرة من عمره. لم يكن تطور المحركات نوعيا لبعض الوقت لأنه كان يفتقر للحاسوب بشكل شخصي اذ كما تعلمون ان الحاسوب لم يكن من السهل الوصول اليه الا في اوائل القرن الحالي، فمع تطور تصنيع الحاسوب وسهولة اقتنائه أصبح لدينا الكثير من الناس ممن قاموا ببرمجة العديد من المحركات وأصبحت هناك منافسات تجرى بينهم كل سنة. اعتقد ان النقلة النوعية كانت حين قامت شركة " أي بي ام " ببرمجة محرك " ديب بلو " اذ كان اول محرك يستطيع ان يتغلب على بطل العالم في الشطرنج آنذاك وهو كاسباروف في عام 1997 اذ كان ذلك لقاءهما الثاني، وهنا قال كاسباروف جملته الشهيرة والتي اثارت جدلا كبيرا، " لقد كانت يد الله التي تلعب " بإشارة منه الى الغش كما فعل مارادونا عندما ادخل هدفا بيده وفاز بكاس العالم.
بعد ذلك توالت تصنيع المحركات الشطرنجية وأصبحت تأخذ اهتمام اكثر للاستثمار، فصنعت البرامج التدريبية والتحليلات وهناك بعض البرامج التي تضم مكاتب شطرنجية هائلة تحتوي على الأدوار مع تحليل أهمها. بعد خسارة كاسباروف في 1997 لعب بطل العالم السابق كرامنك مع " دييب فريدز " في 2006 وهي كانت اخر مباراة لبطل عالم اما محرك شطرنجي ولم يستطع كرامنك ان يحرز أي فوز في أي جولة وهنا نستطيع ان نقرأ الواقع ان بالفعل استطاع المحرك الهيمنة على الشطرنج في الوقت الحالي اما الانسان ومن ذلك اليوم اعتقد انه بات بالجزم انه لم يعد لاحد الجرأة على اللعب مع المحركات.
هيمن محرك ستوك فيش لسنوات على ساحة المحركات الشطرنجية, فقد كان يفوز بالبطولة واحدة تلو الاخرة, لكن حصل ما لم يكن احد يتوقعه, طفرة جديدة في عالم الذكاء الاصطناعي, اذ استطاعت شركة " ديب مايند " ان تصنع محرك جديد يعمل على تقنية جديدة في الذكاء الاصطناعي واستخدام خوادم شركة أي بي ام لكي يلعب مع نفسه ويتعلمها دون اعطاءه أي معلومات اخرة, فبعد ان لعب مع نفسه مدة 4 ساعات اصبح المحرك بقوة ستوك فيش وبعد ان ترك للعب مع نفسه 9 ساعات استطاع ان يسحق ستوك فيش في 100 مباراة اذ لم يستطع ستوك فيش ان يربح أي من الأدوار ! اما الفا زيرو ففاز ب 25 دور بالأبيض 3 أدوار بالأسود وتعادل 72 مباراة. لم تكن البشرية مصدقا لما يجري في انها, كيف لمحرك لم تسمع به مطلقا ان يفعل ما فعل مع مثالك الأعلى في الشطرنج, كل المحترفين في الشطرنج من ضمنهم بطل العالم الحالي يستخدمون ستوك فيش للتحليل, وفجأة يأتي محرك الفا زيرو ويقضي كليا على ستوك فيش, الكل مذهول بهذه النتيجة, مع هذا الخبر اصبحنا امام حقبة جديدة من المحركات تعتمد على أسلوب جديد من الخوارزميات, اذ بعد الفا زيرو استطاعوا ان يبرمجوا ليلا زيرو التي تعتمد باللعب حاليا على نفس الخوارزمية التي اعتمدت في الفا زيرو. حاليا ليلا زيرو تقدر ان تلعب بمستوى ستوك فيش والتفوق عليه أحيانا، لكن هناك ما زال متسع من الوقت لتحسين لعب هذا المحرك. ملاحظة الفا وليلا زيرو يستخدمان حاليا تقنية " deep neural network “وهي تقنية للتعليم الذاتي للآلات.
حاليا العالم متجه الى كمبيوتر الكم ( quantum computer ), اذ تبلغ سرعة اقوى كمبيوتر كم على وجه الارض (Zuchongzhi) عشرات المليون من المرات من اي كمبيوتر خارق ! اعتقد الان عندما يصبح كمبيوتر الكم بمتناول الجميع , ستكون المحركات الشطرنجية على موعد جديد من الحسابات الخارقة, لكن السؤال الاهم هل سنصل الى سرعة تخولنا ان نحسب الاحتمالات الشطرنجية كلها ؟ كل ذلك لا نستطيع معرفته ووحده التطور والمستقبل قادران على اجابة هذا السؤال.
إضافة تعليق جديد