لقاء بعد فراق !

التقيته قبل عشر سنواتْ ... بحثتُ عنه فوجدته مرمياً في زوايا التاريخ وفوق رفوف المكتباتْ...حدّثني لساعةٍ واحدةٍ بعض كلماتْ ( كلماتٍ ليست كالكلمات )، وفي نهاية الساعة الأولى عشقته... فتنتُ به ..همتُ حباً بروعة حضوره وحديثه الآسر ؛ ولكني كرهته في نهاية الساعة الثانية .. أنكرته ثلاثاً .. ثم هجرته بنفس السرعة التي عشقته بها . لم يغضب الرجل مني ؛ بل ودعني بابتسامة نرجسية ، وكأنه يعلم أن زياراتي إليه ستتكرر عشرات المرات في السنين المقبلات !!.
أعترف أمامكم أيها السادة أني تهورتُ في لقائي الأول معه ! ولكني لا أشعر اليوم بنفس الأسى أو الذنب عندما ألتقيه سراً في الليالي المظلمات بعيداً عن عيون الرجال المشرقيين والنساء المشرقيات !! لماذا ؟ لأنه قال لي، وأنا أصدق ما يقول: ((قليلاً ما يرتكب المرء فعلاً واحداً متهوراً؛ فالشخص دائماً في حَدَث التهور الأول يقوم بعمل هائل. لهذا السبب فقط، عادةً ما يرتكب التهور الثاني، فهو عندها يؤدي جهداً أقل )) . وبهذه البساطة والعفوية عشقته مراراً ، وهجرته مراراً ، ثم عدت إليه والعار الأحلى يلبسني ، والخطيئة المشتهاة تغمرني وتشعرني بمزيج غريب من الرضى والتمرد ... أحياناً أسخر من جنونه وغبائه، وأحياناً أغرق في فكرةٍ يُشعلها فتحملني أياماً على سعادةٍ تشبه لذة اكتشاف النار لأول مرة. هو يَكفر أحياناً حتى يكاد يُفصّل لذاته ملابس إله على مقاس جسمه ليكون هو محرك الكون ، ويؤمن أحياناً حتى لتكاد تحسبه قام لتوه من سجودٍ لا زمن فيه . ييأس حتى لتقول إنه كان يكتب كلمات الوداع قبل قرار قطع الشريان أو القفز تحت قطار ،ويتفاءل حتى لتقول هذا مَن يُمكن لقلبه أن يعيش طويلاً ولو كان في معتقلات جوانتانامو. يحتقر المرأة حيناً فتكون عنده رمزَ الضعف الإنساني المشين، ويجعل منها إله الرجل في مرات أخرى. يالهذا الرجل الغريب ! ويحي ! من يدلني على سبيل للهروب من هذا الكائن البشري المختلف ؟! وكيف لي أن أنسى أقواله وكلماته الشعاراتية ؛ والتي مافتئت تسبح في عقلي الصغير !؟ دلوني أيها السادة إلى وسيلة أتخلص بها من رجل نصف إله ! رجل نرجسي يدفعكم قسراً لعشق النرجسية ! رجل يخربش على أوراقه الصفراء، منذ عشرات السنين، سيلاً من الكلمات ثم يأمركم، وأنتم راضون بأمره، قائلاً: ((التين يتساقط من الشجر، إنه ناعم وحلو:وبينما يتساقط تنفلق قشرته. إنني ريح شمالية لإنضاج التين. كالتين تتساقط هذه التعاليم عليكم أصدقائي: فاشربوا عصارتها الآن، وكلوا لحمها الحلو، إنه خريف يطوق المكان كله، وسماءٌ صافية بعد انتصاف الظهيرة.إن الذي يعرف كيف يتنفس رياح كتاباتي يدرك أنها رياح الأعالي ، رياحٌ عنيفة، لابد أن يكون الشخص مهيئاً لها، وإلا فلن يكون الخطر ضئيلاً في أن يصاب المرء بالبرد؛ فالثلح إلى الجوار، والعزلة رهيبة، ومع ذلك: ما أروع أن يتمدد كل شيء بطمأنينة تحت النور! كم هو رائع أن يتنفس المرء بحرية! إن الفلسفة كما فهمتها وعشتها حتى الآن هي تعمد العيش في الثلج على الجبال الشاهقة، والبحث عن كل شيء غير مألوف...لم تكونوا قد بحثتم عن أنفسكم عندما وجدتموني...إنني أطلبكم الآن أن تتخلصوا مني وأن تجدوا أنفسكم، وفقط عندما تنكرونني كلياً، سوف أعود إليكم )) .
بعد لقائي الأخير به قررت أن أهرب منه ؛ وقد شعرت بالرضى على قراري هذا وصارحته بالأمر ، ولم تزل كلماته تحفر في عقلي : ((حين تمتلك امرأة مزايا رجالية، فإن على الشخص أن يهرب بعيداً عنها، وحين لا تمتلك تلك المزايا فستمارس الهروب بنفسها . الرضى يحمي الشخص حتى مِن أن يُصاب بالبرد. هل سبق أن أصاب البردُ امرأةً كانت تعرف أنها ترتدي أجمل الزي؟ إنني أفترض أنها كانت بالكاد ترتدي أي شيء )).
... اليوم أعود إليك من جديد يا فارسي القديم!.أبحث عن كل شيء لأني أفتقد كل شيء؛ فأجدكَ أنت كما أنتْ:إلهاً ما زال يردد على مسامعي نصيحته القديمة:((ماذا؟جادٌّ أنت في البحث؟ تريد أن تضاعف ذاتك بضربها في عشرة، في مئة؟ تفتش عن أتباع؟-ابحث إذاً عن أصفار!)) ،وأخبركَ أني وجدت عدداً كبيراً من الأصفار في هذا العصر الحديث !! وبأني صرت مثلك يا صديقي (( من المدرسة العسكرية للحياة: كل شيء لا يقتلني؛ يجعلني أقوى ))، وبأني ما زلت أحتفظ بين مذكراتي العتيقة بقصاصة ورقية منك؛ هي الأغلى على قلبي ـ ((صديقتي منال: حتى أكثرنا شجاعةً نادراً ما يمتلك الجرأة لمواجهة ما يعرفه بالفعل. كل الحقائق بسيطة! أليست هذه كذبة مركبة؟؟ صديقك نيتشه )) .
* * *
المصدر: رسائل منال إبراهيم الخاصة
المرسل: almaher
المنتديات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

دعوة للمشاركة

موقع الأيهم صالح يرحب بالمشاركات والتعليقات ويدعو القراء الراغبين بالمشاركة إلى فتح حساب في الموقع أو تسجيل الدخول إلى حسابهم. المزيد من المعلومات متاح في صفحة المجتمع.