في حوار أجريته منذ يومين مع طارق حمندوش وجه ضيفي رسالة للجمهور أن يتوقفوا عن إطلاق الأحكام المسبقة. وأنا أعتقد أن هذه الرسالة بالغة الأهمية والالتزام بها يعكس مستوى راقيا من التفكير.
عدم إطلاق الأحكام المسبقة كفكرة هو نتيجة مباشرة لمبدأ الشك الذي يعتبر أحد أهم أسس التفكير العلمي المعاصر. الصياغة المعروفة لمبدأ الشك تعتمد على كتابات العالم الفرنسي رينيه ديكارت، وخصوصا كتابه Discours de la Méthode الصادر عام 1637 وقال فيه العبارة المشهورة "je pense, donc je suis" ومعناها "أنا أفكر إذا أنا موجود". في عام 1765 أعاد الفرنسي أنطوان ليونارد توما صياغة المبدأ كما يلي "Puisque je doute, je pense; puisque je pense, j'existe." وترجمتها "أنا أشك، إذا أنا أفكر، إذا أنا موجود"
في عام 1927 اقترح العالم الألماني فيرنر هايزنبيرغ مبدأ الارتياب، وصاغه على شكل معادلات فيزيائية، يعبر عنها بعبارة "لا يمكن أن تعرف موقع جسيم وسرعته في لحظة واحدة". تطبيق مبدأ هايزنبيرغ في الفلسفة جاء مجرد تطوير لمبدأ الشك الذي أسسه ديكارت، ويمكن أن أصوغ كما يلي: "لا يمكن أن تعرف حالة منظومة دون أن تغير هذه الحالة". فإذا كان ديكارت يدعو للتجربة للتأكد من الأفكار، يأتي هايزنبيرغ ليوضح حدود الثقة بالنتائج التي يمكن أن تقدمها التجربة. تطبيق مبدأ هايزنبيرغ على العلم يؤدي إلى الاعتقاد أن "كل تجربة على أية منظومة هي تغيير في حالة هذه المنظومة، ونتيجة التجربة تنطبق على لحظة إجراء التجربة، ولا تنطبق على ما قبل او ما بعد، أي أنها لا تنطبق على لحظة قراءة نتائج التجربة."
يعتبر مبدأ هايزنبيرغ أحد أهم أسس الفيزياء المعاصرة، وله تأثيره العميق على العلم المعاصر، ولكن التأثير الفلسفي لمبدأ هايزنبيرغ على العلاقات الإنسانية لا يقل عن تأثيره على العلم. فحسب مبدأ الشك لديكارت، علينا إخضاع كل التصورات المسبقة للتجربة، التصورات المسبقة عن الأشخاص أو المواقف أو القضايا قد لا تعكس الحقيقة، ولا بد من اختبار التصورات المسبقة قبل اتخاذ رأي معرفي بناء على تجربة. ولكن مبدأ هايزنبيرغ يقول أن نتائج تجربتنا مع الأشخاص تعكس الواقع لحظة إجراء التجربة، ولا تنطبق على ما قبلها ولا ما بعدها.
لنفرض أننا نريد اتخاذ موقف من شخص ما، حسب ديكارت علينا أن نخضع هذا الشخص للتجربة، ولكن حسب هايزنبيرغ علينا أن نقبل عدم الحكم على ماضي أو مستقبل هذا الشخص بناء على نتيجة التجربة مهما كانت. من تجده كريما الآن قد لا يكون كريما في السابق وكرمه الحالي لا يضمن أن يبقى كريما غدا أو في المستقبل. ومن لا يعجبك أحد مواقفه اليوم لسبب ما قد يتخذ مواقف تعجبك لاحقا وربما اتخذ مواقف تعجبك سابقا. النتيجة غير المباشرة لهذه الفكرة هي عدم تعميم نتائج التجارب، فإذا كانت النتيجة غير صالحة لتجربة قادمة مع نفس الشخص، فهي بشكل طبيعي غير صالحة لتجربة قادمة مع شخص آخر، ولذلك فإذا كان شخص ما لطيفا في تجربة معينة، لا يمكن استنتاج أنه لطيف دائما، ولا أن أخاه أو رفاقه لطفاء أيضا. وإذا آذاك شخص ما في حالة، فهذا لا يعني أن أخاه أو ابن عمه سيؤذونك أو يؤذون أخاك أو ابن عمك.
إضافة لذلك، فبما أن التجربة تغيير في الحالة يحدثه مراقب خارجي حسب مبدأ هايزنبيرغ، عندما تجري تجربة ما على شخص، مثلا عندما تسأله عن موقفه، فإن هذه التجربة قد تسبب تغييرا في الموقف نفسه، السؤال بحد ذاته قد يحدث تغييرا في الموقف، وقد يكون التغيير محسوسا بطريقتين، إما عبر تعبير الشخص عن التغيير صراحة بأقواله أو أفعاله، وإما عبر الأعراض التي تعبر عن تأثر الشخص داخليا بالتجربة مع رفضه لإعلان هذا التغيير، وهي عادة أعراض تنسجم مع نظرية التنافر Cognitive Dissonance، كالتشنج أو عدم الارتياح للنقاش أو التجربة.
يقود تطبيق مبدأ هايزنبيرغ على العلاقات الإنسانية إلى نتيجة تشبه النتيجة التي توصل إليها نسيم طالب في كتابه "البجعة السوداء" عندما نقد أسس تطبيق الاستقراء كمنهج علمي. فإذا كانت كل البجعات التي شاهدتها أنت وكل شخص تعرفه حتى الآن بيضاء، مبدأ هايزنبيرغ يقول بوضوح أنه لا يمكنك استنتاج أن البجعات التي ستراها لاحقا ستكون بيضاء أيضا.
تعرفت على مبدأ هايزنبيرغ عندما كان عمري 17 سنة، ولا أذكر متى قرأت أو توصلت إلى صياغته التي أوردتها أعلاه ولا متى أصبح هذا المبدأ أحد أسس شخصيتي ودليلي في العلاقات مع الآخرين. وقد أعجبت بصياغة ضيفي البسيطة والمباشرة لمبدأ الشك عندما سمعتها، وأنا أدعو جميع أصدقائي لتبني فكرة طارق حمندوش والتوقف عن اعتماد الأفكار المسبقة كأداة لتقييم الآخرين، وإلى تطبيق مبدأ هايزنبيرغ وعدم إطلاق الأحكام المطلقة على الآخرين حتى لو كانت بناء على تجارب.
الأيهم صالح
عدم إطلاق الأحكام المسبقة كفكرة هو نتيجة مباشرة لمبدأ الشك الذي يعتبر أحد أهم أسس التفكير العلمي المعاصر. الصياغة المعروفة لمبدأ الشك تعتمد على كتابات العالم الفرنسي رينيه ديكارت، وخصوصا كتابه Discours de la Méthode الصادر عام 1637 وقال فيه العبارة المشهورة "je pense, donc je suis" ومعناها "أنا أفكر إذا أنا موجود". في عام 1765 أعاد الفرنسي أنطوان ليونارد توما صياغة المبدأ كما يلي "Puisque je doute, je pense; puisque je pense, j'existe." وترجمتها "أنا أشك، إذا أنا أفكر، إذا أنا موجود"
في عام 1927 اقترح العالم الألماني فيرنر هايزنبيرغ مبدأ الارتياب، وصاغه على شكل معادلات فيزيائية، يعبر عنها بعبارة "لا يمكن أن تعرف موقع جسيم وسرعته في لحظة واحدة". تطبيق مبدأ هايزنبيرغ في الفلسفة جاء مجرد تطوير لمبدأ الشك الذي أسسه ديكارت، ويمكن أن أصوغ كما يلي: "لا يمكن أن تعرف حالة منظومة دون أن تغير هذه الحالة". فإذا كان ديكارت يدعو للتجربة للتأكد من الأفكار، يأتي هايزنبيرغ ليوضح حدود الثقة بالنتائج التي يمكن أن تقدمها التجربة. تطبيق مبدأ هايزنبيرغ على العلم يؤدي إلى الاعتقاد أن "كل تجربة على أية منظومة هي تغيير في حالة هذه المنظومة، ونتيجة التجربة تنطبق على لحظة إجراء التجربة، ولا تنطبق على ما قبل او ما بعد، أي أنها لا تنطبق على لحظة قراءة نتائج التجربة."
يعتبر مبدأ هايزنبيرغ أحد أهم أسس الفيزياء المعاصرة، وله تأثيره العميق على العلم المعاصر، ولكن التأثير الفلسفي لمبدأ هايزنبيرغ على العلاقات الإنسانية لا يقل عن تأثيره على العلم. فحسب مبدأ الشك لديكارت، علينا إخضاع كل التصورات المسبقة للتجربة، التصورات المسبقة عن الأشخاص أو المواقف أو القضايا قد لا تعكس الحقيقة، ولا بد من اختبار التصورات المسبقة قبل اتخاذ رأي معرفي بناء على تجربة. ولكن مبدأ هايزنبيرغ يقول أن نتائج تجربتنا مع الأشخاص تعكس الواقع لحظة إجراء التجربة، ولا تنطبق على ما قبلها ولا ما بعدها.
لنفرض أننا نريد اتخاذ موقف من شخص ما، حسب ديكارت علينا أن نخضع هذا الشخص للتجربة، ولكن حسب هايزنبيرغ علينا أن نقبل عدم الحكم على ماضي أو مستقبل هذا الشخص بناء على نتيجة التجربة مهما كانت. من تجده كريما الآن قد لا يكون كريما في السابق وكرمه الحالي لا يضمن أن يبقى كريما غدا أو في المستقبل. ومن لا يعجبك أحد مواقفه اليوم لسبب ما قد يتخذ مواقف تعجبك لاحقا وربما اتخذ مواقف تعجبك سابقا. النتيجة غير المباشرة لهذه الفكرة هي عدم تعميم نتائج التجارب، فإذا كانت النتيجة غير صالحة لتجربة قادمة مع نفس الشخص، فهي بشكل طبيعي غير صالحة لتجربة قادمة مع شخص آخر، ولذلك فإذا كان شخص ما لطيفا في تجربة معينة، لا يمكن استنتاج أنه لطيف دائما، ولا أن أخاه أو رفاقه لطفاء أيضا. وإذا آذاك شخص ما في حالة، فهذا لا يعني أن أخاه أو ابن عمه سيؤذونك أو يؤذون أخاك أو ابن عمك.
إضافة لذلك، فبما أن التجربة تغيير في الحالة يحدثه مراقب خارجي حسب مبدأ هايزنبيرغ، عندما تجري تجربة ما على شخص، مثلا عندما تسأله عن موقفه، فإن هذه التجربة قد تسبب تغييرا في الموقف نفسه، السؤال بحد ذاته قد يحدث تغييرا في الموقف، وقد يكون التغيير محسوسا بطريقتين، إما عبر تعبير الشخص عن التغيير صراحة بأقواله أو أفعاله، وإما عبر الأعراض التي تعبر عن تأثر الشخص داخليا بالتجربة مع رفضه لإعلان هذا التغيير، وهي عادة أعراض تنسجم مع نظرية التنافر Cognitive Dissonance، كالتشنج أو عدم الارتياح للنقاش أو التجربة.
يقود تطبيق مبدأ هايزنبيرغ على العلاقات الإنسانية إلى نتيجة تشبه النتيجة التي توصل إليها نسيم طالب في كتابه "البجعة السوداء" عندما نقد أسس تطبيق الاستقراء كمنهج علمي. فإذا كانت كل البجعات التي شاهدتها أنت وكل شخص تعرفه حتى الآن بيضاء، مبدأ هايزنبيرغ يقول بوضوح أنه لا يمكنك استنتاج أن البجعات التي ستراها لاحقا ستكون بيضاء أيضا.
تعرفت على مبدأ هايزنبيرغ عندما كان عمري 17 سنة، ولا أذكر متى قرأت أو توصلت إلى صياغته التي أوردتها أعلاه ولا متى أصبح هذا المبدأ أحد أسس شخصيتي ودليلي في العلاقات مع الآخرين. وقد أعجبت بصياغة ضيفي البسيطة والمباشرة لمبدأ الشك عندما سمعتها، وأنا أدعو جميع أصدقائي لتبني فكرة طارق حمندوش والتوقف عن اعتماد الأفكار المسبقة كأداة لتقييم الآخرين، وإلى تطبيق مبدأ هايزنبيرغ وعدم إطلاق الأحكام المطلقة على الآخرين حتى لو كانت بناء على تجارب.
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد