العيد المسافر
و لأن أمي كأي أم عجوز يغرفها النوم إلى ملكوته بعد سهر ممض وبعد عشرين كبوة و لأنها في كل كبوة ترى أمامها أخوتي جميعاً.
مرة في طفولتهم ومرة في يفاعتهم وهم يتشاجرون . وأخرى يهجرون المنزل الكبير إلى احضان زوجاتهم .
تفرك أمي دمعة بين أصابعها .. ومن أهدابها ينز الزمن الذي مضى .
وصوت أبي .
سنوات عجفاء تغفو على وجهها .
قامة يعلق عليها الزمن ثياب الرحيل إلى العالم الآخر .
إنها تسمع أورفيوس يغني وترى الناس يتعثرون به .
" بالأمس كانوا هنا . الأولاد صغار يعذبون بي . ها .. إنهم يقرعون الباب ها .. أعد الطعام لهم " .
ايه . ويطير النوم من عينيها . يحط في عيون الأبناء . " كنت صبية وكانت الأرض لا تتسع لخطواتي . كنت جميلة . لم يكن العمر قد جهز نفسه للسفر ".
تصمت أمي برهة , ثم تشتم الزمن " ستهربون مثلي . ساعتها ستتذكرونني " من يتذكر يا عجوز ؟! من يقف في هذا الطابور وهذا السباق ليتذكر يا عجوز ؟!!
تركلنا الحياة , نقع . نعود للركض . نتلاشى في ضياعنا . نريد الكثير .
تسبقنا الدروب . وتقتربين يا أماه من عالم البدء .
الليل طويل .
يهطل في ساحة القرية .
الفلاحون المتعبون من عمل النهار يغطون في نوم عميق .
تمشي الام في أرض المنزل .
تتكىء على سنواتها وتتجول في المنزل . تتفقد الصباح .
تغلق الباب ثانية " أف .. طويل هذا الليل ".
تنظر إلى ثياب الرحيل ماذا ستأخذ معها وماذا ستترك .
تطوف عيناها على الجدران وعلى صور أخوتي , تشم رائحة طفولتهم .
يعز عليها الرحيل وتقسم بأن لا ترحل .
* * *
... بينما أخوتي ينامون . تكون أمي سهرانة ترتق ليلها الطويل بغفوات متقطعة . تحدث الليل الموحش الذي يجلس على عينيها وتناجي صورنا وأولادنا .
" عندما يكبر المرء يعصيه النوم " تضحك أمي في صباها على هذا الكلام تمد ذراعيها تنظر إلى الجلد المترهل . يجثو أمامها الشقاء تطيل النظر في كفيها . " كم تعبت هاتان اليدان ؟ " .
وتهطل دمعة . تكم فاه البهجة . تمسح الدمعة وتذهب إلى سريرها . تحاول النوم . لم تستطع . ما بزال الصباح بعيداً لم يصل بعد إلى قريتنا.
يتكوم وجه أبي في عينيها . يقف على الباب صوته . تعاتبه عتاباً مقهوراً " وحدهن اللواتي فارقن الأحبة , ويعشن وحيدات مثل أمي يدركن عذاب أمي , ووحدتها ".
أمي تعاتب أبي كل ليلة لأنه تركها وحيدة بينما أنام انا في حضن رجل واخي ينام في حضن امرأة . قصير ليلنا ولا نسمع خطواته .
كان الربيع في أوله .
وكان نيسان طفلاً .
الناس مشغولون بزراعة الخضار وتعشيب البساتين . أبداً لا تهدأ الحياة . بينما يشد والدي ركب الرحيل فجأة . تعاتبه أمي " ابراهيم ... حقاً أنت جاد في سفرك ؟. وتقول : إذن لقد حان موعد القسمة هكذا ..
وهكذا وبهدوء يمتطي والدي جواد الغياب دون أن يخبرنا .
ودون الوداعات الحارة والطويلة .
في الليل تبكي أمي " كان يملأ المنزل . يملأ القرية " وتصر على أن والدي لم يرحل أبداً أنه سيعود . إنها تراه كل ليلة عائداً من سفره يقرع الباب يناديها . وأحياناً يدخل عليها فجأة فيتجول في المنزل يتلمس الجدران بشوق . يسألها عن الأولاد ويسهر معها حتى يأخذها النوم منع . فيرفع أبي معطفه الشتوي الثقيل ويغطيها .
تتحرك أمي ضجرة وتقول : لقد أثقلت علي بالغطاء يا ابراهيم , معطفك ثقيل . كيف تحمله ؟!. يصمت أبي دون ان يرد على ضجرها , ينهمل بالصلاة وعندما يقترب من النهاية تتحرك أمي في سريرها وتقول : لا تنسى الاولاد من الدعاء , خاصة الفتاة الصغرى إن قلبي معها .
* * *
طال غياب أبي
أمي اقتنعت أخيراً , بأنه سافر بعيداً ولن يعود . لذلك ماتت خيول حلمها . وتعثرت الأمسيات في عينيها .
" الأولاد تركوني يا ابراهيم " .
" الأولاد يتساجرون . صاروا غرباء , يقتسمون حتى الكلام "
وحيدة امي .. يضيق عليها المنزل , يخنقها . وحده أبي كان يجعل الجدران تتباعد . وفسحة الدار وعندما كان الرعد يزمجر في شتاءات البحر الممطرة , كانت أمي تتوسل صوت أبي وتحتمي بعينيه .
تتلمس صورة أبي المعلقة . وتنظر إلى معطفه المعلق على الجدار الجنوبي من المنزل . ترسل نهدة حزينة وتتمتم: " الأولاد يزورونني في الأعياد يا ابراهيم . هذه الأيام صارت الاعياد تتأخر . " شوقولك " العيد لا يأتي كل عام ؟".
" أستغرب يا ابراهيم كيف نبتت كل هذه القسوة في صدر الأولاد . وفي صدور زوجاتهم وأولادهم . يتهامسون ضجراً بي .
يظنون أني لا أسمعهم . ويمرون بقربي دون سلام وكأني لا أراهم .
سيكبرون .. سيكبرون غنشاء الله .؟!
أخ .. هذا الروماتيزم اللعين .
تتلمس امي ساقيها . تسحب مشطاً من تحت وسادتها .
تفرد شعرها وتمشطه تشعر أن ثقلاً في رأسها .
تكاد لا تقوى على رفعه إلى الأعلى " ابراهيم . ارفع رأسك أنظر إلي من أنا ؟! هل تعرفني ؟!. هل أنت نائم ؟! ويجيب والدي بحروف منقطعة ثقيلة .
لا .. لست نائماً . بل أكاد أنام لأني أشعر بنعس شديد وأني أرى الاولاد في منامي "
لم يكن أبي نعساناً . بل كان يحسب الوقت للانطلاق في السفر الأبدي .
" لو رحلنا معاً . كنا نسلي بعضنا "
تبكي أمي رأسها ثقيل " أطرافها ثقيلة " تشعر بالبرد . تمشي ببطء .
" ألم المفاصل يعبني منذ مدة طويلة " تمرر أصابعها على وجهها ورقبتها .
تقترب من النافذة . تتوسل إلى النهار كي يصل , كي يخرج من رحم الليل تتنهد وتعاتب الساعات التي تحبو ببطء . تحاول شد جسدها وهي تحبو باتجاه سريرها .. تتمدد فيه وتشد الغطاء جيداً , كم هي صغيرة الآن .
السنوات أكلت قامتها . كان لها قامة رائعة .
تحوال الاسترخاء . تغمض عينيها . تشعر بالنعاس . فجأة تسمع نقراً على الباب , ترهف السمع جيداً . يستمر النقر على الباب . من الذي يدق في هذا الليل الموحش ؟ , تشعر بالخوف تتنفس بصعوبة . ساقاها متورمتان , ثقيلتان .
صمت قصير , ثم تقول العجوز بصوت مرتجف : من على النافذة ؟.. أصابع تمر كالخيال .. هدوء مخيف .
فجأة يعود النقر على الزجاج . ترفع العجوز رأسها بصعوبة . تنظر باتجاه النافذة , ترى أمامها رجلاً . ينحني أمامها محييا ويقول باحترام :
" نفضلي يا سيدتي . جئت أخذك "
تندهش العجوز . تسأل خائفة : من أنت ؟ من الذي أرسلك ؟! كيف دخلت ؟!.
- لا يهم يا سيدتي . المهم أن تحزمي نفسك ووتبعيني ستسافرين الآن.؟!
- الآن ؟! الآن ؟!. لم أحزم حقائبي . ولم أودع اولادي ..
- الآن ؟! ثم اني عجوز يا بني ولا أقوى على المشي في هذه الظلام .
- نظري خفيف . انتظر حتى يأتي الصباح وحتى تستيقظ القرية ..
- سأودع الجيران على الأقل .
- - لا أستطيع الانتظار يا خالة أيقظوني من نومي وأرسلوني إليك. لدي عربة ستقلك دون تعب .
- نظرت العجوز إلى سريرها إلى الجدران إلى صور الأولاد وإلى صباها المخبوء في الزوايا هاهو وجهها منقوش على كل نافذة .
- مشت العجوز خطوة واحدة ثم وقفت . انسابت دمعة حارة . نادت أولادها في سرها " آه لو أراهم قبل الرحيل !! مشتاقة أن أشم رائحتهم ".
- حملت العجوز صرة من السنين المكتوفة في ظهرها - فيها الصبا - وصورة ابراهيم , والأولاد . والقرية . وشقاء السنوات - " فقط لو ودعت الأولاد .. " ثم تبكي .
- سارت العجوز باتجاه الباب . جسدها يكاد يهوي . نظرت إلى الوراء . تقدم الرجل أمامها . اجتاز عتبة المنزل . وقفت العجوز تتأمل المنزل وتتأمل الرجل الغريب الذي صار خارج الباب . امتدت يدها إلى الباب . تنهدت . عزَ عليها الرحيل . سمعت أولادها ينادونها .. ويركضون خلفها يتشاجرون - من الذي يمسك بثوبها ؟!. هاج البحر الذي في صدرها . رمت الصرة إلى الأرض وأغلقت الباب بسرعة وقوة ثم قالت بصوت مرتفع " لن أذهب " .
توسل الرجل اليها - لا تتعب نفسك والله لن أسافر معك - أغلقت النافذة وجلست على حافة السرير تنتظر .
لن يأتي الأولاد . الأولاد مشغولون .
طال الانتظار ولم يأت العيد .
ترقبت الطريق كثيراً واشتاقت كثيراً لأولادها . ولزوجها .
... لم يأت أحد . لذلك جاء والدي بنفسه وقال :
أظن أنك مشتاقة إلي . هيا ودعي المنزل وتعالي معي
عندما سافرت أمي لم تودع أخوتي .
و هم لم يحضروا لوداعها . لذلك أخذت صور طفولتهم المحفورة في صدرها وسافرت على الأبد .
أنيسة عبود
[ تم تحريره بواسطة Toha on 2/10/2006 ]
و لأن أمي كأي أم عجوز يغرفها النوم إلى ملكوته بعد سهر ممض وبعد عشرين كبوة و لأنها في كل كبوة ترى أمامها أخوتي جميعاً.
مرة في طفولتهم ومرة في يفاعتهم وهم يتشاجرون . وأخرى يهجرون المنزل الكبير إلى احضان زوجاتهم .
تفرك أمي دمعة بين أصابعها .. ومن أهدابها ينز الزمن الذي مضى .
وصوت أبي .
سنوات عجفاء تغفو على وجهها .
قامة يعلق عليها الزمن ثياب الرحيل إلى العالم الآخر .
إنها تسمع أورفيوس يغني وترى الناس يتعثرون به .
" بالأمس كانوا هنا . الأولاد صغار يعذبون بي . ها .. إنهم يقرعون الباب ها .. أعد الطعام لهم " .
ايه . ويطير النوم من عينيها . يحط في عيون الأبناء . " كنت صبية وكانت الأرض لا تتسع لخطواتي . كنت جميلة . لم يكن العمر قد جهز نفسه للسفر ".
تصمت أمي برهة , ثم تشتم الزمن " ستهربون مثلي . ساعتها ستتذكرونني " من يتذكر يا عجوز ؟! من يقف في هذا الطابور وهذا السباق ليتذكر يا عجوز ؟!!
تركلنا الحياة , نقع . نعود للركض . نتلاشى في ضياعنا . نريد الكثير .
تسبقنا الدروب . وتقتربين يا أماه من عالم البدء .
الليل طويل .
يهطل في ساحة القرية .
الفلاحون المتعبون من عمل النهار يغطون في نوم عميق .
تمشي الام في أرض المنزل .
تتكىء على سنواتها وتتجول في المنزل . تتفقد الصباح .
تغلق الباب ثانية " أف .. طويل هذا الليل ".
تنظر إلى ثياب الرحيل ماذا ستأخذ معها وماذا ستترك .
تطوف عيناها على الجدران وعلى صور أخوتي , تشم رائحة طفولتهم .
يعز عليها الرحيل وتقسم بأن لا ترحل .
* * *
... بينما أخوتي ينامون . تكون أمي سهرانة ترتق ليلها الطويل بغفوات متقطعة . تحدث الليل الموحش الذي يجلس على عينيها وتناجي صورنا وأولادنا .
" عندما يكبر المرء يعصيه النوم " تضحك أمي في صباها على هذا الكلام تمد ذراعيها تنظر إلى الجلد المترهل . يجثو أمامها الشقاء تطيل النظر في كفيها . " كم تعبت هاتان اليدان ؟ " .
وتهطل دمعة . تكم فاه البهجة . تمسح الدمعة وتذهب إلى سريرها . تحاول النوم . لم تستطع . ما بزال الصباح بعيداً لم يصل بعد إلى قريتنا.
يتكوم وجه أبي في عينيها . يقف على الباب صوته . تعاتبه عتاباً مقهوراً " وحدهن اللواتي فارقن الأحبة , ويعشن وحيدات مثل أمي يدركن عذاب أمي , ووحدتها ".
أمي تعاتب أبي كل ليلة لأنه تركها وحيدة بينما أنام انا في حضن رجل واخي ينام في حضن امرأة . قصير ليلنا ولا نسمع خطواته .
كان الربيع في أوله .
وكان نيسان طفلاً .
الناس مشغولون بزراعة الخضار وتعشيب البساتين . أبداً لا تهدأ الحياة . بينما يشد والدي ركب الرحيل فجأة . تعاتبه أمي " ابراهيم ... حقاً أنت جاد في سفرك ؟. وتقول : إذن لقد حان موعد القسمة هكذا ..
وهكذا وبهدوء يمتطي والدي جواد الغياب دون أن يخبرنا .
ودون الوداعات الحارة والطويلة .
في الليل تبكي أمي " كان يملأ المنزل . يملأ القرية " وتصر على أن والدي لم يرحل أبداً أنه سيعود . إنها تراه كل ليلة عائداً من سفره يقرع الباب يناديها . وأحياناً يدخل عليها فجأة فيتجول في المنزل يتلمس الجدران بشوق . يسألها عن الأولاد ويسهر معها حتى يأخذها النوم منع . فيرفع أبي معطفه الشتوي الثقيل ويغطيها .
تتحرك أمي ضجرة وتقول : لقد أثقلت علي بالغطاء يا ابراهيم , معطفك ثقيل . كيف تحمله ؟!. يصمت أبي دون ان يرد على ضجرها , ينهمل بالصلاة وعندما يقترب من النهاية تتحرك أمي في سريرها وتقول : لا تنسى الاولاد من الدعاء , خاصة الفتاة الصغرى إن قلبي معها .
* * *
طال غياب أبي
أمي اقتنعت أخيراً , بأنه سافر بعيداً ولن يعود . لذلك ماتت خيول حلمها . وتعثرت الأمسيات في عينيها .
" الأولاد تركوني يا ابراهيم " .
" الأولاد يتساجرون . صاروا غرباء , يقتسمون حتى الكلام "
وحيدة امي .. يضيق عليها المنزل , يخنقها . وحده أبي كان يجعل الجدران تتباعد . وفسحة الدار وعندما كان الرعد يزمجر في شتاءات البحر الممطرة , كانت أمي تتوسل صوت أبي وتحتمي بعينيه .
تتلمس صورة أبي المعلقة . وتنظر إلى معطفه المعلق على الجدار الجنوبي من المنزل . ترسل نهدة حزينة وتتمتم: " الأولاد يزورونني في الأعياد يا ابراهيم . هذه الأيام صارت الاعياد تتأخر . " شوقولك " العيد لا يأتي كل عام ؟".
" أستغرب يا ابراهيم كيف نبتت كل هذه القسوة في صدر الأولاد . وفي صدور زوجاتهم وأولادهم . يتهامسون ضجراً بي .
يظنون أني لا أسمعهم . ويمرون بقربي دون سلام وكأني لا أراهم .
سيكبرون .. سيكبرون غنشاء الله .؟!
أخ .. هذا الروماتيزم اللعين .
تتلمس امي ساقيها . تسحب مشطاً من تحت وسادتها .
تفرد شعرها وتمشطه تشعر أن ثقلاً في رأسها .
تكاد لا تقوى على رفعه إلى الأعلى " ابراهيم . ارفع رأسك أنظر إلي من أنا ؟! هل تعرفني ؟!. هل أنت نائم ؟! ويجيب والدي بحروف منقطعة ثقيلة .
لا .. لست نائماً . بل أكاد أنام لأني أشعر بنعس شديد وأني أرى الاولاد في منامي "
لم يكن أبي نعساناً . بل كان يحسب الوقت للانطلاق في السفر الأبدي .
" لو رحلنا معاً . كنا نسلي بعضنا "
تبكي أمي رأسها ثقيل " أطرافها ثقيلة " تشعر بالبرد . تمشي ببطء .
" ألم المفاصل يعبني منذ مدة طويلة " تمرر أصابعها على وجهها ورقبتها .
تقترب من النافذة . تتوسل إلى النهار كي يصل , كي يخرج من رحم الليل تتنهد وتعاتب الساعات التي تحبو ببطء . تحاول شد جسدها وهي تحبو باتجاه سريرها .. تتمدد فيه وتشد الغطاء جيداً , كم هي صغيرة الآن .
السنوات أكلت قامتها . كان لها قامة رائعة .
تحوال الاسترخاء . تغمض عينيها . تشعر بالنعاس . فجأة تسمع نقراً على الباب , ترهف السمع جيداً . يستمر النقر على الباب . من الذي يدق في هذا الليل الموحش ؟ , تشعر بالخوف تتنفس بصعوبة . ساقاها متورمتان , ثقيلتان .
صمت قصير , ثم تقول العجوز بصوت مرتجف : من على النافذة ؟.. أصابع تمر كالخيال .. هدوء مخيف .
فجأة يعود النقر على الزجاج . ترفع العجوز رأسها بصعوبة . تنظر باتجاه النافذة , ترى أمامها رجلاً . ينحني أمامها محييا ويقول باحترام :
" نفضلي يا سيدتي . جئت أخذك "
تندهش العجوز . تسأل خائفة : من أنت ؟ من الذي أرسلك ؟! كيف دخلت ؟!.
- لا يهم يا سيدتي . المهم أن تحزمي نفسك ووتبعيني ستسافرين الآن.؟!
- الآن ؟! الآن ؟!. لم أحزم حقائبي . ولم أودع اولادي ..
- الآن ؟! ثم اني عجوز يا بني ولا أقوى على المشي في هذه الظلام .
- نظري خفيف . انتظر حتى يأتي الصباح وحتى تستيقظ القرية ..
- سأودع الجيران على الأقل .
- - لا أستطيع الانتظار يا خالة أيقظوني من نومي وأرسلوني إليك. لدي عربة ستقلك دون تعب .
- نظرت العجوز إلى سريرها إلى الجدران إلى صور الأولاد وإلى صباها المخبوء في الزوايا هاهو وجهها منقوش على كل نافذة .
- مشت العجوز خطوة واحدة ثم وقفت . انسابت دمعة حارة . نادت أولادها في سرها " آه لو أراهم قبل الرحيل !! مشتاقة أن أشم رائحتهم ".
- حملت العجوز صرة من السنين المكتوفة في ظهرها - فيها الصبا - وصورة ابراهيم , والأولاد . والقرية . وشقاء السنوات - " فقط لو ودعت الأولاد .. " ثم تبكي .
- سارت العجوز باتجاه الباب . جسدها يكاد يهوي . نظرت إلى الوراء . تقدم الرجل أمامها . اجتاز عتبة المنزل . وقفت العجوز تتأمل المنزل وتتأمل الرجل الغريب الذي صار خارج الباب . امتدت يدها إلى الباب . تنهدت . عزَ عليها الرحيل . سمعت أولادها ينادونها .. ويركضون خلفها يتشاجرون - من الذي يمسك بثوبها ؟!. هاج البحر الذي في صدرها . رمت الصرة إلى الأرض وأغلقت الباب بسرعة وقوة ثم قالت بصوت مرتفع " لن أذهب " .
توسل الرجل اليها - لا تتعب نفسك والله لن أسافر معك - أغلقت النافذة وجلست على حافة السرير تنتظر .
لن يأتي الأولاد . الأولاد مشغولون .
طال الانتظار ولم يأت العيد .
ترقبت الطريق كثيراً واشتاقت كثيراً لأولادها . ولزوجها .
... لم يأت أحد . لذلك جاء والدي بنفسه وقال :
أظن أنك مشتاقة إلي . هيا ودعي المنزل وتعالي معي
عندما سافرت أمي لم تودع أخوتي .
و هم لم يحضروا لوداعها . لذلك أخذت صور طفولتهم المحفورة في صدرها وسافرت على الأبد .
أنيسة عبود
[ تم تحريره بواسطة Toha on 2/10/2006 ]
المنتديات
إضافة تعليق جديد