الرسالة الأولى:
تفصلني عنكِ اليومَ آلافُ الأميالِ، وانعدامُ الرؤيةِ، وبحار وجبال لا تنتهي، وآلافُ الوجوهِ الغريبةِ، ومدينة غربية الهوى والقلب واللسان، وثلوج بلقانية تُجمّد القلوب المهاجرة وتفتح في العقول نوافذَ لذكرياتٍ من وطنٍ بعيد.
هي رسالتي الأولى أخطها إليكِ.. أيتها الحبيبةُ الشاردةُ خلف خطوط الزمنِ والمسافاتْ.. أيتها التائهةُ في مكانٍ يدعى الوطن.. الفرح والحزن والخوف والأمانْ.. تسكن في عينيك يا عصفورة الزمانْ.. والشوق والحنينْ.. وآلام الهجر اللعين.. تكحّل جفنيكِ يا ربّة كل مكانْ.. وأنا أحلم بالعودةْ.. لأراضٍ لا تعرف حدا.. لديارٍ وسمت بالردةْ.. يا بحراً أنتِ بلا شطآنْ.. يجتاحني حبكِ اعصاراً.. يغمرني دمعكِ أمطاراً.. لكنكِ تبقين الربّةْ.. والعبدُ العبدُ هو الإنسان .
الرسالة الثانية:
ستةُ شهورٍ مرَّت على وجوديَ المقدَّر في هذه المدينةِ البعيدةِ عن الأهلِ وعنكِ.. ها أنا أكتب إليك من جديد لكي أنشّط ذاكرتي المضطربةِ باضطرادٍ تحت تأثير المدينةِ العامرةِ بالحضارةِ والثقافةِ والسياسةِ والنساء.. أكتب إليك وشعورٌ بالذنب يلازمني في أن أفقد تفاصيل صورتك وهي تنتقل رويداً رويدا إلى مساحاتٍ منسيةٍ من عقلي الباطن. هذه المدينةُ يا سيدتي تجذبني بقوةٍ غريبةٍ إليها.. تأخذني من عقليَ المشرقيَ الصغير لترميني في دروبها وجامعاتها وحاناتها المفتوحةِ على العلمِ والعشقِ الحميم.. أنا البدويُّ المحرومُ من كل شيءٍ في وطني إلا من بعض كرامة، أسقطُ صريعَ النظرةِ الأنثويةِ الأولى، والقبلةِ الأولى، والشهوةِ الحرام.. لأكتشف أن المرأة هنا هي الوحيدةُ القادرةُ على تحويل ليل غربتي إلى نهاراتٍ مشرقاتْ، ومساءاتٍ بالفرحِ موشاة، وقلوبٍ عامرةٍ قليلةِ الذكرياتْ.
اعذري يا سيدتي وقاحتي وجرأتي ووضوحي فأنت خيرُ من يعذرْ!.. وأنا لا أستطيع أن أحيا في هذه المدينةِ وقلبي مشطورٌ إلى نصفين.. لا أقدر أن أحيا على ذكريات الماضي من الأيام، بينما الحاضرُ منها يغريني بأمطارٍ تروي شراييني.. اهجريني إن شئت ولكن.. دعيني!.. دعيني أخوض التجربة حتى أبلغَ النهاية أو يجرفني طوفانُ البحثِ عن الحقيقةِ والجمالْ.
الرسالة الأخيرة:
ستُّ سنواتٍ مرت، وما زلتُ أشعرُ بميلٍ متجددٍ للكتابة إليك أيتها المنسيةُ على قارعةِ الزمنِ والذكرياتْ.. هي رسالتي الأخيرة ربما؛ فلقد دقت ساعة الرحيل والعودة.. وها أنا أحزم أوراقي وأياميَ الخوالي وصور المدينة والأصدقاء ورسائل منك، يا سيدتي، معمدةً بالدموع والحب والانتظار وتهمة بالخيانة لن تغتفر!!... وأنا لست كما تتهمين؛ ولكن المدينة الغربية غيرتني وشذبت بدويتي الطامعةِ، منذ التكوين، بامرأة خانعة القلب والفكر والسلوك!!.
أنا لا أكرهك يا صديقتي؛ ولكني لست بعاشقٍ لك!.. وربما أعطف عليك، وعلى جلّ نساء بلادي من خلالك!.. (هذي بلادٌ تَختـنُ القصيدةَ الأنثى.. وتشنُقُ الشمسَ لدى طلوعها، حفظاً لأمن العائلة..وتذبحُ المرأة إن تكلمتْ، أو فكرت، أو كتبت، أو عشقت..غسلاً لعار العائلة.هذي بلادٌ لا تريد امرأةً رافضةً..ولا تريد امرأة غاضبةً..ولا تريد امرأة خارجةً على طقوس العائلة...هذي بلاد لا تريد امرأةً تمشي أمام القافله.!!).* ولقد كنت صادقا معك منذ البداية.. أردتك أن تثوري، كما المرأة هنا، على مستنقع السبايا والتكايا والمحرمات .. ولم أنجح!.. رَغبتكِ أن تغضبي وتصرخي وتسألي:( ماذا تريد المدنُ النائمةُ الكسولةُ الغافله.منّي،..أنا الجارحةُ الكاسرةُ المقاتله...إن كان عقلي ما يريدون، فلا يسعدني بأن أكون عاقله... ما تفعل المرأة في أمطارها؟.. ما تفعل المرأة في أنهارها؟.. كيف تُرى يمكنها أن تزرعَ الوردَ على هذه الجرود القاحله؟... معذرةً.. معذرةً ! لن أتخلى قطُّ عن أظافري... فسوف أبقى دائماً أمشي أمام القافله... وسوف أبقى دائماً.. مقتولةً.. أو قاتله). **
لقد أخرجتني المدينة الغربية من عباءتي الشرقية... صيرتني المرأة هنا لا قائداً ولا منقاداً في الحب.. جعلتني أومن بأن النِدّية في علاقة الرجل والمرأة هي أصل الصورة، وأن أي خلل في هذا التوازن هو مسخ للصورة. إذاً، فلتسجلي في ذاكرتك يا صديقتي هذه الحوارية المدهشة! فلعلها تُخرجني من مربع الخيانة، وربما أدخلتكِ مربع العشق بلا إهانة:
( قال لها ألا تلاحظين أن الكـون ذكـر؟!
فقالت له بل لاحظت أن الكينونة أنثى.
قال لها ألم تُدركي بأن النـور ذكـر ؟!
فقالت له بل أدركت أن الشمس أنثـى.
قـال لهـا أوليـس الكـرَمُ ذكــرا ً ؟ !
فقالت له نعم ولكـن الكرامـة أنثـى.
قال لها ألا يعجبـك أن الشِعـر ذكـر؟!
فقالت له وأعجبني أكثر أن المشاعر أنثى.
قال لها هل تعلميـن أن العِلـمَ ذكـر؟!
فقالت له إنني أعرف أن المعرفة أنثـى.
فأخذ نفسـا ً عميقـا ً وهو مغمض عينيه؛ ثم عاد ونظر إليها بصمتٍ للحظات. وبـعـد ذلك قال لها :
سمعت أحدهم يقول أن الخيانة أنثى
فقالت له ورأيت إحداهن تكتب أن الغدر ذكر
قال لها ولكنهم يقولون أن الخديعـة أنثـى
فقالت له بل هنَّ يقلـن أن الكـذب ذكـر
قال لها هناك من أكّد لـي أن الحماقـة أنثـى
فقالت له وهناك من أثبت لي أن الغباء ذكـر
قـال لهـا أنـا أظـن أن الجريمـة أنـثـى
فقالـت لـه وأنـا أجـزم أن الإثـم ذكـر
ً قـال لهـا أنـا تعلمـت أن البشاعـة أنثـى
فقالـت لـه وأنـا أدركـت أن القبـح ذكر
تنحنح قليلاً ثم أخذ كأس الخمر فشربه كله دفعة واحدة. وهي خافت لحظة إمساكه بالكأس؛ مما جعله يبتسم.. وعندها :
قال لها يبدو أنك محقة فالطبيعة أنثـى
فقالت له وأنت قد أصبت فالجمال ذكـر
قـال لهـا لا بـل السـعـادة أنـثـى
فقالت له ربمـا ولكن الحـبَّ ذكـر
قال لها وأنا أعترف بأن التضحية أنثـى
فقالت له وأنا أقرُّ بأن الصفـح ذكـر
قال لها ولكنني على ثقةٍ بأن الدنيا أنثى
فقالت له وأنا على يقينٍ بأن القلب ذكر
ولا زال الجـدل قائمـا ..ً وسيبقى الحوار مستمرا ً طالما أن الـسـؤال ذكـــر والإجابة أنثى ). ***
*********** ******
المصادر:
*؛** من قصيدة " ليلة القبض على فاطمة " للشاعرة سعاد الصباح.
*** " ذكر وأنثى ": نص منقول بتصرف.
تفصلني عنكِ اليومَ آلافُ الأميالِ، وانعدامُ الرؤيةِ، وبحار وجبال لا تنتهي، وآلافُ الوجوهِ الغريبةِ، ومدينة غربية الهوى والقلب واللسان، وثلوج بلقانية تُجمّد القلوب المهاجرة وتفتح في العقول نوافذَ لذكرياتٍ من وطنٍ بعيد.
هي رسالتي الأولى أخطها إليكِ.. أيتها الحبيبةُ الشاردةُ خلف خطوط الزمنِ والمسافاتْ.. أيتها التائهةُ في مكانٍ يدعى الوطن.. الفرح والحزن والخوف والأمانْ.. تسكن في عينيك يا عصفورة الزمانْ.. والشوق والحنينْ.. وآلام الهجر اللعين.. تكحّل جفنيكِ يا ربّة كل مكانْ.. وأنا أحلم بالعودةْ.. لأراضٍ لا تعرف حدا.. لديارٍ وسمت بالردةْ.. يا بحراً أنتِ بلا شطآنْ.. يجتاحني حبكِ اعصاراً.. يغمرني دمعكِ أمطاراً.. لكنكِ تبقين الربّةْ.. والعبدُ العبدُ هو الإنسان .
الرسالة الثانية:
ستةُ شهورٍ مرَّت على وجوديَ المقدَّر في هذه المدينةِ البعيدةِ عن الأهلِ وعنكِ.. ها أنا أكتب إليك من جديد لكي أنشّط ذاكرتي المضطربةِ باضطرادٍ تحت تأثير المدينةِ العامرةِ بالحضارةِ والثقافةِ والسياسةِ والنساء.. أكتب إليك وشعورٌ بالذنب يلازمني في أن أفقد تفاصيل صورتك وهي تنتقل رويداً رويدا إلى مساحاتٍ منسيةٍ من عقلي الباطن. هذه المدينةُ يا سيدتي تجذبني بقوةٍ غريبةٍ إليها.. تأخذني من عقليَ المشرقيَ الصغير لترميني في دروبها وجامعاتها وحاناتها المفتوحةِ على العلمِ والعشقِ الحميم.. أنا البدويُّ المحرومُ من كل شيءٍ في وطني إلا من بعض كرامة، أسقطُ صريعَ النظرةِ الأنثويةِ الأولى، والقبلةِ الأولى، والشهوةِ الحرام.. لأكتشف أن المرأة هنا هي الوحيدةُ القادرةُ على تحويل ليل غربتي إلى نهاراتٍ مشرقاتْ، ومساءاتٍ بالفرحِ موشاة، وقلوبٍ عامرةٍ قليلةِ الذكرياتْ.
اعذري يا سيدتي وقاحتي وجرأتي ووضوحي فأنت خيرُ من يعذرْ!.. وأنا لا أستطيع أن أحيا في هذه المدينةِ وقلبي مشطورٌ إلى نصفين.. لا أقدر أن أحيا على ذكريات الماضي من الأيام، بينما الحاضرُ منها يغريني بأمطارٍ تروي شراييني.. اهجريني إن شئت ولكن.. دعيني!.. دعيني أخوض التجربة حتى أبلغَ النهاية أو يجرفني طوفانُ البحثِ عن الحقيقةِ والجمالْ.
الرسالة الأخيرة:
ستُّ سنواتٍ مرت، وما زلتُ أشعرُ بميلٍ متجددٍ للكتابة إليك أيتها المنسيةُ على قارعةِ الزمنِ والذكرياتْ.. هي رسالتي الأخيرة ربما؛ فلقد دقت ساعة الرحيل والعودة.. وها أنا أحزم أوراقي وأياميَ الخوالي وصور المدينة والأصدقاء ورسائل منك، يا سيدتي، معمدةً بالدموع والحب والانتظار وتهمة بالخيانة لن تغتفر!!... وأنا لست كما تتهمين؛ ولكن المدينة الغربية غيرتني وشذبت بدويتي الطامعةِ، منذ التكوين، بامرأة خانعة القلب والفكر والسلوك!!.
أنا لا أكرهك يا صديقتي؛ ولكني لست بعاشقٍ لك!.. وربما أعطف عليك، وعلى جلّ نساء بلادي من خلالك!.. (هذي بلادٌ تَختـنُ القصيدةَ الأنثى.. وتشنُقُ الشمسَ لدى طلوعها، حفظاً لأمن العائلة..وتذبحُ المرأة إن تكلمتْ، أو فكرت، أو كتبت، أو عشقت..غسلاً لعار العائلة.هذي بلادٌ لا تريد امرأةً رافضةً..ولا تريد امرأة غاضبةً..ولا تريد امرأة خارجةً على طقوس العائلة...هذي بلاد لا تريد امرأةً تمشي أمام القافله.!!).* ولقد كنت صادقا معك منذ البداية.. أردتك أن تثوري، كما المرأة هنا، على مستنقع السبايا والتكايا والمحرمات .. ولم أنجح!.. رَغبتكِ أن تغضبي وتصرخي وتسألي:( ماذا تريد المدنُ النائمةُ الكسولةُ الغافله.منّي،..أنا الجارحةُ الكاسرةُ المقاتله...إن كان عقلي ما يريدون، فلا يسعدني بأن أكون عاقله... ما تفعل المرأة في أمطارها؟.. ما تفعل المرأة في أنهارها؟.. كيف تُرى يمكنها أن تزرعَ الوردَ على هذه الجرود القاحله؟... معذرةً.. معذرةً ! لن أتخلى قطُّ عن أظافري... فسوف أبقى دائماً أمشي أمام القافله... وسوف أبقى دائماً.. مقتولةً.. أو قاتله). **
لقد أخرجتني المدينة الغربية من عباءتي الشرقية... صيرتني المرأة هنا لا قائداً ولا منقاداً في الحب.. جعلتني أومن بأن النِدّية في علاقة الرجل والمرأة هي أصل الصورة، وأن أي خلل في هذا التوازن هو مسخ للصورة. إذاً، فلتسجلي في ذاكرتك يا صديقتي هذه الحوارية المدهشة! فلعلها تُخرجني من مربع الخيانة، وربما أدخلتكِ مربع العشق بلا إهانة:
( قال لها ألا تلاحظين أن الكـون ذكـر؟!
فقالت له بل لاحظت أن الكينونة أنثى.
قال لها ألم تُدركي بأن النـور ذكـر ؟!
فقالت له بل أدركت أن الشمس أنثـى.
قـال لهـا أوليـس الكـرَمُ ذكــرا ً ؟ !
فقالت له نعم ولكـن الكرامـة أنثـى.
قال لها ألا يعجبـك أن الشِعـر ذكـر؟!
فقالت له وأعجبني أكثر أن المشاعر أنثى.
قال لها هل تعلميـن أن العِلـمَ ذكـر؟!
فقالت له إنني أعرف أن المعرفة أنثـى.
فأخذ نفسـا ً عميقـا ً وهو مغمض عينيه؛ ثم عاد ونظر إليها بصمتٍ للحظات. وبـعـد ذلك قال لها :
سمعت أحدهم يقول أن الخيانة أنثى
فقالت له ورأيت إحداهن تكتب أن الغدر ذكر
قال لها ولكنهم يقولون أن الخديعـة أنثـى
فقالت له بل هنَّ يقلـن أن الكـذب ذكـر
قال لها هناك من أكّد لـي أن الحماقـة أنثـى
فقالت له وهناك من أثبت لي أن الغباء ذكـر
قـال لهـا أنـا أظـن أن الجريمـة أنـثـى
فقالـت لـه وأنـا أجـزم أن الإثـم ذكـر
ً قـال لهـا أنـا تعلمـت أن البشاعـة أنثـى
فقالـت لـه وأنـا أدركـت أن القبـح ذكر
تنحنح قليلاً ثم أخذ كأس الخمر فشربه كله دفعة واحدة. وهي خافت لحظة إمساكه بالكأس؛ مما جعله يبتسم.. وعندها :
قال لها يبدو أنك محقة فالطبيعة أنثـى
فقالت له وأنت قد أصبت فالجمال ذكـر
قـال لهـا لا بـل السـعـادة أنـثـى
فقالت له ربمـا ولكن الحـبَّ ذكـر
قال لها وأنا أعترف بأن التضحية أنثـى
فقالت له وأنا أقرُّ بأن الصفـح ذكـر
قال لها ولكنني على ثقةٍ بأن الدنيا أنثى
فقالت له وأنا على يقينٍ بأن القلب ذكر
ولا زال الجـدل قائمـا ..ً وسيبقى الحوار مستمرا ً طالما أن الـسـؤال ذكـــر والإجابة أنثى ). ***
*********** ******
المصادر:
*؛** من قصيدة " ليلة القبض على فاطمة " للشاعرة سعاد الصباح.
*** " ذكر وأنثى ": نص منقول بتصرف.
المنتديات
التعليقات
Re: رسائلٌ إلى امرأةٍ شرقية
Re: رسائلٌ إلى امرأةٍ شرقية
Re: رسائلٌ إلى امرأةٍ شرقية
إضافة تعليق جديد