خلصت مشاغبة نبيل صالح الأخيرة إلى القول
قريبا سوف يتساوى الجميع أمام عدالة الحرمان.. فواجهوا مصيركم دونما صراخ بعدما فقدتم كل شيء سوى شرفكم وشجاعتكم التي أنقذت البلاد من جحافل التكفيريين.. فالأبطال لايطأطؤون أمام المجرمين..آمين
يطرح نبيل صالح نظرته للمستقبل على أنها قدر محتوم على الجميع أن يواجهوه، وأنا أختلف معه في هذه النظرة، فأنا أعتقد أن المصير يستند على قرار الإنسان وليس على الظروف المحيطة به. ويمكنني أن أستند إلى كتابات فكتور فرانكل وستيفن كوفي لادعم رأيي، ولكن في مقالتي هذه سأتناول الموضوع من وجهة نظر الإدارة وليس من وجهة نظر فلسفية.
هناك ثلاثة استراتيجيات على الأقل يمكن اعتماد أي منها لمواجهة أية حالة تبدو مستحيلة، وهذه الاستراتيجيات هي:
تحصين القلعة:
مهما كانت الظروف سيئة حولك، يمكنك أن تحاول بناء وسط أو مجتمع خاص بك تعيش ضمنه كما تريد، وتعمل بالتدريج على توسيعه وعلى تقليل تأثير الظروف السيئة عليك. يشبه الأمر أن تحاول بناء قلعة حولك وتتحصن ضمنها. مجتمعنا خبير بهذه الاستراتيجية، فقد شهد دفاعنا عن نفسنا خلال العقد الماضي بناء عدد من القلاع الحصينة التي صمدت أشهرا وسنوات ضد الحصار. هل تذكرون قلعة حارم، هل تذكرون قلعة حلب، هل تذكرون كفريا والفوعة؟ كم سنة صمدت درعا في وجه الحصار الضاري؟
لست مؤهلا لأشرح لأحد ما يمكن أن يفعله، ولكنني ملتزم بالتعبير عن احترامي لمن قرروا الصمود وتحصين قلاعهم في وجه المستحيل، وراغب باقتراح بعض الأفكار على من يرغب باعتماد هذه الاستراتيجية.
يشمل تحصين القلعة تفاصيل كثيرة، وأولها تحصين قلعة الشخص النفسية والجسدية، ومحافظة كل إنسان على صحته وصحة أسرته في وجه الدمار واليأس والاستحالة التي تحيط به. في المرحلة الثانية يأتي تأمين مسلتزمات الحياة اليومية، وهي بدون شك لن تكون بمستوى الحياة الطبيعية، بل ستكون بمستوى مواجهة ظروف مستحيلة والبقاء على قيد الحياة، في المرحلة الثالثة يتم بناء تحالفات وشراكات مع من يرغبون بتحصين القلعة، وهكذا بالتدريج يتضح شكل القلعة وحدودها، ويتم توزيع المسؤوليات فيها. وفي هذه المرحلة تبدأ الأطراف الأخرى بالاحتكاك بالقلعة، وإذا صمدت القلعة في وجه المناوشات الأولية، تبدأ مرحلة المعارك العنيفة، والتي عادة ما تكون معارك استنزاف متبادلة ومتناوبة مع معارك اجتياح. لا أحد يستطيع توقع النتائج، والتاريخ مليء بقصص القلاع التي صمدت والقلاع التي سقطت.
البداية الجديدة
إذا كانت السفينة محكومة بالغرق وفق قوانين الطبيعة، فما الفائدة من الغرق معها؟ وهل من الذكاء تحدي قوانين الطبيعة؟ في الكثير من الحالات المستحيلة يكون الفرار أو الهرب أو الهزيمة أفضل الحلول، وأنا أقول ذلك بدون تجميل وبدون حديث عن “انسحاب تكتيكي”. الهرب من السفينة الغارقة أفضل بكثير من الغرق معها، والهرب من الموت الحتمي أفضل بكثير من الاستسلام له. النجاة من مثل هذه الحالات فرصة لبداية جديدة، وربما تكون فاتحة لتغيير الواقع ولمواجهة الحالات المستحيلة.
مجتمعنا خبير بهذه الاستراتيجية، وقد مارسها أسلافنا منذ آلاف السنين،ومؤخرا مارسها أجدادنا أيام سفربرلك، وأيام الاحتلال الفرنسي، ومارسها آباؤنا أيام الحصار الاقتصادي، ومارسناها نحن أيام الغزو الإرهابي لبلدنا.
لا توجد قواعد للبدايات الجديدة، بل تعتمد على الإبداع البشري. ومهما كانت الظروف سيئة حولك، يمكنك أن تحاول البحث عن بداية جديدة. كل ما تحتاجه هو البحث عن نقاط قوتك أنت، واستخدامها لفتح صفحة جديدة وترك كل الماضي وراءك. السفينة الغارقة تبقى مجرد ذكرى مؤلمة في حين تعيش أنت حياة أفضل وتؤمن حياة أفضل لأسرتك.
المعركة الأخيرة
في بعض الحالات يمكن للإنسان أن يواجه الحالات المستحيلة بالتخطيط لمعركة أخيرة يلقي فيها بكل ما يملك، وبحيث يختار ظروفها ومكانها ويرسم خططها مسبقا، وينتظر فيها معجزة تساعده في الانتصار. القاعدة العامة هي أن المعارك الأخيرة يجب أن تخطط للنصر، وليس للهزيمة، ويجب أن تنتظر حصول أمور من الصعب جدا حدوثها جميعا لدرجة أنها تعتبر معجزات، وليس أن تأمل حصول معجزات دون تحضير لها.
في التاريخ قصص كثيرة عن معارك أخيرة ناجحة، ونحن حاليا نعيش قصة معركة أخيرة مميزة هي المعركة التي بدأها بضعة سائقي شاحنات في كندا بعد أن سنت الحكومة قوانين تمنعهم من ممارسة عملهم. قال هؤلاء أنهم سيتجهون إلى العاصمة أوتاوا للاحتجاج على هذه القوانين، ودعوا سائقي الشاحنات الآخرين للانضمام إليهم. توقع هؤلاء أن الكثيرين ممن يعانون نفس معاناتهم سينضمون إليهم، وأنهم سيشكلون قافلة كبيرة تستطيع أن تضغط على الحكومة الكندية، ولكن تجاوب المجتمع الكندي معهم فاق التوقعات ووصل إلى حد الإعجاز، فقد تطوع أشخاص لجمع التبرعات لهم، وجمعوا لهم في وقت قياسي أكثر من 9 مليون دولار من المواطنين الكنديين، كما انضم إليهم آلاف سائقي الشاحنات والمركبات الثقيلة ووصل حجم القافلة إلى أكثر من 50 ألف مركبة امتدت على مدى أكثر من 70 كيلومتر، وحياها الكنديون عند مرورها في التقاطعات بجوار مدنهم وقراهم، ثم وصلت إلى أوتاوا فانضم إليها إعلاميون وعلماء ورجال شرطة ودعمها المواطنون الكنديون بكل طاقتهم، ثم قام سائقون آخرون بإغلاق عدد من المعابر الحدودية في كندا للضغط على الحكومة، والمعركة مازالت مستمرة حاليا.
المعركة الأخيرة لا تعني أن يلقي الإنسان بنفسه في معركة خاسرة، بل تعني أن يخطط لمعركة أخيرة يعتقد أنه يمكن أن يكسبها رغم القوة غير المتكافئة، ويعتمد فيها على دعم ومساندة من جهات لا يسيطر عليها، وعلى مهارته في إدارة المعركة مقابل قوة الأطراف الأخرى الجبارة.
استراتيجيات الفشل
يمكننا أن نميز بين الحالات الحرجة والحالات المستحيلة، في الحالات الحرجة يكون أمام الإنسان عدة مخارج واضحة، وفرص نجاح كبيرة جدا إذا استطاع مواجهة حراجة الحالة، ولكن طريقة مواجهة الحالات الحرجة يمكن أن تحولها إلى حالات مستحيلة. مثلا الخضوع والاستسلام والانتحار استراتيجيات تحول الحالات الحرجة إلى حالات مستحيلة، ومثلها أيضا الصراخ والاستغاثة والاستذلال والاستعطاف والترجي ولوم النفس وجلد الذات. هذه ممارسات تعزز استحالة ما تتم مواجهته، وربما كان ذلك ما يريد نبيل صالح أن يقوله في ختام مشاغبته.
الأيهم صالح
التعليقات
ضد المستحيل
فكر رائع استاذ ايهم الحبيب.
إضافة تعليق جديد