قد تكون الأحداث التي شهدتها الشرق الأوسط قد جعلتنا نغرق في التفاصيل، لكن لنفهم ما يحدث يجب علينا أن نبتعد قليلا عن السياسة ونعود إلى الاقتصاد، كما يقول دائما فلاسفة التاريخ والاجتماع والاقتصاد.
فالاقتصاد على الأقل لا يوجد فيه تلاعب وأخبار كاذبة وتضليل وحملات إعلانية، إنه عبارة عن أرقام لا يمكن استمالتها أو تأويلها، كما أنك لست بحاجة لمراسل إخباري ليخبرك ما يدور في الغرف المغلقة، أو لتشاهد اللقاءات بين السياسيين لتعرف إن بدى عليهم علامات الارتياح أو الغضب والانفعال!
كلنا نعلم أنه في هذا العالم سوف يتجاوز قيمة الناتج الإجمالي المحلي (إن لم يكن قد تجاوز فعلا) للصين قيمة الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة، لكن هل هذا يعني شيئا؟
في الواقع أن التاريخ والاقتصاد يقول إنه كلما تجاوزت إمبراطورية صاعدة الناتج الإجمالي لإمبراطورية قائمة، يرافق هذا الحدث ظهور توترات جيوسياسية، والمخطط التالي يوضح ذلك:
نستطيع أن نشاهد من خلال هذا المخطط أنه عندما تجاوزت الولايات المتحدة الناتج الإجمالي للإمبراطورية البريطانية عام 1914، سبق ورافق ذلك توترات جيوسياسية كان بنتيجتها الحرب العالمية الأولى!
أما في الحرب العالمية الثانية فقط تجاوزت ألمانيا الناتج الإجمالي لعدوتها اللدود بريطانيا عام 1935 والتي كانت تشكل الدولة الأقوى عسكريا في ذلك الوقت وسيدة البحار.
لكن ما نستطيع مشاهدته أيضا من هذا المخطط أن في العام الحالي 2014 سوف تتجاوز الصين الناتج الإجمالي للولايات المتحدة، مما يعني أن التوترات الجيوسياسية من المرشح أن تستمر وتزداد في الفترة المقبلة.
لكن ما يخبرنا به التاريخ أن الدول التي تبدأ بالتوترات الجيوسياسية عند حدوث حالات التوازن الحرج، تحقق انتصارات مؤقتة لكنها تفشل في الناهية.
هناك استنتاج آخر خطير يشير له المخطط هو انخفاض الطلب على الدولار الأمريكي كعملة أساسية للاحتياطي المالي العالمي، فالعملة المستخدمة كاحتياطي نقدي عالمي، يجب أن تكون صادر عن إمبراطورية عظمى اقتصاديا وعسكريا!
في النتيجة يجب أن نعترف أننا أصبحنا مرة أخرى في عالم ثنائي الأقطاب، لكن المظهر العام في العالم ما يزال لا يعكس هذه الحقيقة، لماذا يا ترى؟
إليكم الأسباب:
1. ما تزال القوة الناعمة الأمريكية (ثقافة – إعلام – شبكات اقتصادية – تجسس – منتجات التكنولوجيا) هي الأولى بلا منازع.
2. ما يزال الانفاق العسكري الأمريكي يتجاوز ثلاث أضعاف الإنفاق العسكري الصيني على الرغم من الزيادة المضطردة في الإنفاق العسكري الصيني "الغير معلن".
3. ما تزال أمريكا تدعي أنها قائدة "العالم الحر" وتدعي أنها تمتلك الحق في الدفاع عنه.
لكن هناك من جهة أخرى مؤشرات تظهر الضعف الجيوسياسي الأمريكي مثل:
1. الأزمة الاقتصادية العالمية كان لها التأثير الأكبر على العالم الغربي، أما تأثيرها على الصين فكان ضعيفا بعكس ما توقعته كبريات الصحف الغربية التي وصفت حينها الصين "بالثور المخصي"، كما في العدد التالي للإيكونيميست:
http://www.economist.com/node/12987564
2. عدم قدرة الولايات المتحدة على الحسم والذي بدى جليا في الشرق الأوسط وفي الأزمة الأوكرانية.
3. عجز الإدارة الأمريكية عن وضع خطة استراتيجية مضادة لتوسع النشاط العسكري والاقتصادي الصيني في بحر الصين الشرقي والغربي.
4. تحول الإدارة الأمريكية من حسم الصراعات إلى رعاية الصراعات ومحاولة تجييرها لصالحها، مما يعرضها لمخاطر غير متوقعة وظهور لاعبين غير مرغوبين.
أين نحن:
في الواقع أننا لا نقرأ التاريخ كالعادة، فالدول العربية وخاصة الخليجية ما تزال تعتقد أن أمريكا هي نفسها أمريكا عام 1990 وعام 2003، وبناء على ذلك ما تزال تراهن على المظلة الأمنية الأمريكية والدور الأمريكي، على الرغم من أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون، قد أعلنت سابقا أن منطقة الخليج لم تعد لها الأهمية الاستراتيجية للولايات المتحدة وأنها تتجه شرقا، كما أن كميات النفط والغاز المكتشفة في العقد الأخير، وتطور تقنية استخراج النفط من الصخر الزيتي قد قلل من أهمية الخليج كمصدر أساسي لطاقة العالم.
السؤال الذي يطرح نفسه: متى تستطيع الدول العربية وفي مقدمتها الخليجية أن تدرك موقعها وتتبنى سياسة إيجابية متوازنة متوائمة مع المتغيرات العالمية، وتحمي عمقها الاستراتيجي الذي أصبح مهددا بشكل كبير؟
معلومات إضافية
المنتديات
إضافة تعليق جديد