عندما صعدت ذلك المدرج الذي تعلوه الأعمدة الرومانية والأضواء المتداخلة مع أصوات الموسيقى الراقية، ظننت أنني سأشهد مسرحا رومانيا منبعثا من الماضي، لقد أطللت على ساحة كبيرة مليئة بالبشر ومزدانة بالأشجار الاصطناعية ، ومحاطة بشلالات المياه وشاشات العرض العملاقة، بالكاد أستطيع أن أرى الأرض في بعض الأماكن ، ثم بدأت أسلك أحد الدروب المحتشدة والمحصورة بين الموائد، وعند الاقتراب من كل مائدة أسمع أصوات الملاعق والصحون والكؤوس، وعندما أغادر المائدة يعود صوت خرير المياه الصاخب والمختلط بأصوات الأغاني الشعبوية المنبعثة من الشاشات العملاقة، بحيث أنه لا يمكن لرواد أي مائدة أن يستمعوا أو حتى يشاهدوا ما يدور في المائدة المجاورة.
مئات الموائد ملأت الساحة والأبنية الملحقة، أم بالنسبة إلى الطعام فهو نوع واحد فقط " المشاوي" !! جميع الرواد يطلبون نوعا واحد من الطعام ، جميع الموائد ممتلئة بكميات من الطعام أكثر من حاجة روادها، جميع الرواد يأكلون بنهم حتى الامتلاء ، لا أحد يستمع أو يستمتع بما يحيط به ، أما الأراجيل فهي الدواء الشافي لتعزيز الامتلاء ، بحيث يمكنهم ملئ بطونهم بالدخان بعد أن استعصى ملئها بالمزيد من الطعام، أما بالنسبة للمشرفين والخدم فهم متخصصون في فن الامتلاء ، فهم يعرفون مسبقا حاجة كل فرد ليصل إلى الامتلاء ، والملحقات الضرورية للوصول إلى هذه الحالة المرجوة، وهم متمرسون في سرعة التجهيز والتقديم ، حيث أن طلبات الرواد تخلق أمامهم في أقل من ساعة.
الجميع فرح ومسرور، يخرج من هذا المهرجان ليعود إليه قريبا وبنهم، فالطعام لذيذ والأجور مقبولة، كما انه هناك مكان مخصص للصلاة، مجهز بكل ما يحتاجه الأخوة المؤمنون، بحيث يكونون في حالة ممتلئة بالرضى " دين ودنيا".
أما بالنسبة للامتلاء فهو لا يقتصر على الطعام، بل ينسحب على كل ما نرغب به، فبالنسبة للسكن فنحن نرغب بمنزل، ومن ثم منزل أكبر فأكبر، ومنزل آخر وآخر، جميع المنازل متشابهة فهي منازل مصممة حسب الدارج في الأسواق، ولا يختلف منزل عن منزل مجاور له إلا بشكل بسيط.
أما بالنسبة للنساء فالجميع يرغب مزيدا من النساء قدر إمكانياته المادية، والأفضل هو من أمتلئ بنساء أكثر، ولا يكاد يعرف امرأة حتى يبحث عن غيرها، وكلما كانت المرأة صعبة المنال كان ذلك أفضل لتعزيز الشعور بالامتلاء، أما بالنسبة للجديدة فهي لا تختلف عن القديمة إلا قليلا من حيث الشكل أما بالنسبة للمضمون فهي نسخة طبق الأصل، وفي حال أنها كانت مختلفة فمن الأجدر لها أن تتظاهر بأنها مماثلة للأخريات حتى لا تقع فريسة للإهمال.
اما بالنسبة للأصدقاء فالجميع يريد مزيدا من الأصدقاء، يريد من يحدثه قصصا وروايات جديدة، اما بالنسبة للأفكار فالجميع لهم نفس الأفكار والطموحات والرغبات، لا أحد يريد التغيير، الجميع يريد الامتلاء، الجميع ممتلئ بنفس الأفكار عن الحقيقة والعدل والخير والحق والباطل والموت والحياة والحب والحرب، الجميع بلا استثناء... وفي حال أن أحدهم شعر بأنه قد فقد حس الامتلاء فإنه يهرع مسرعا إلى أحد حاضنات الامتلاء المنتشرة عبر وسائل الإعلام و جلسات الأصدقاء والأقران وغيرها... ومن يعتقد نفسه مختلفا فهو بالكاد مختلف بالشكل العام، لكن لا أحد يرحم، فمن يدعي الاختلاف يجب أن ينال العقاب، لأنه يشوش متعة الامتلاء على الآخرين.
لا أحد يحب معرفة هذه الحقيقة فالجميع يحاول أن يظهر أنه مختلف عن الأخرين، الجميع يحاول أن يظهر رغباته بشكل مختلف، ويجهد في إظهارها كذلك، الجميع يطالب بالتعددية السياسية، الجميع يدعي الامتلاء بالتنوع الثقافي، فليس أصعب على الشخص أن يشاهد نفسه بالمرآة ليكتشف أنه بعين واحدة وقدم واحدة ويد واحد، والأهم بدماغ ممتلئ واحد...
معلومات إضافية
المنتديات
إضافة تعليق جديد