مقالة قديمة لرنا محمد أرسلتها لي اليوم، وأعجبتني جدا الفكرة التي تطرحها
كلما دخلت إلى مقهى الانترنيت لقراءة بريدي ورأيت الصبايا والشباب ينتظرون عبر الماسنجر غاضبين أو حاقدين أو مسرورين، أو أراهم يتجادلون عبر المنتديات الألكترونية، تقول لي نفسي في السر:
كيف للناس أن تتحاور مع أشخاص افتراضيين وبأسماء افتراضية ويصدّق بعضهم الآخر دون أن يعرفوا عن بعضهم حقيقة أي شيء، فالكثير منهم يدخلون بأسماء وهمية، وربما شخصيات وهمية ومزيفة... كيف للناس أن تُغرم ببعضها من خلال هذا العالم الافتراضي!...
كيف للناس أن تحب وتتواصل دون أن ترى بريق الحزن أو الفرح أو الإعجاب أو عدم الرضا في عيون الآخر... دون أن تلاحظ ارتعاشات الجسد... دون أن تراقب حركات الشفاه وبياض الأسنان وجمال الابتسامة... دون أن تشعر بحرارة اليدين... دون أن تسمع رنات صوت الآخر، ضحكه وبكائه... دون أن تلاحظ تلبكه وارتيابه أو ارتياحه... دون أن تعيش معه تفاصيل غضبه وحزنه وفرحه... دون أن ترى رشاقة أو ثقل جسده...
فأسرع في تصفح بريدي لأنجو بروحي من جو المقهى الموبوء بالدخان والضحكات التي تخاطب أسلاك الحاسب الباردة والعيون المشدوهة إليه والأجساد التي تكلست وتحجرت على هذا الشكل، وأستغرب كثيراً من هذا العالم الذي فرضه بعض البشر على أنفسهم والذي أبعدهم شيئاً فشيئاً عن ذواتهم... سحبهم من عالم الشمس والمطر والبحر والشوارع والسماء إلى عالم جامد وبارد ويابس قابعين متوترين ويائسين خلف شاشة كمبيوتر ساكنة، فاقتربوا أكثر من الوهم وابتعدوا عن الحياة.
لكن... حين أخرج من المقهى ترافقني ذاتي الأخرى لتذكرني بكل الأشخاص أو الشخصيات الذين عرفتهم وأحببتهم وصدقتهم دون أن أعرفهم حقيقة...
فلم أغادر يوماً إلى الجزائر ولم أحترق على شواطئه مع (آسيا الأخضر)، ولم ألتقِ في أي شارع مع (مهدي جواد) أو (مهيار الباهلي) في (وليمة لأعشاب البحر)، ومع ذلك صدقتهم جميعاً وعشت معهم تفاصيل حياتهم لحظة بلحظة.
لم أسمع بأذني صوت (توماس)، ذلك (الكائن الذي لا تحتمل خفته) حين قال: «الأنظمة المجرمة لم ينشئها مجرمون، إنما أنا متحمسون مقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة، فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق، لذلك قاموا بإعدام الكثيرين. ثم، فيما بعد، أصبح جلياً وواضحاً أكثر من النهار أن الجنة ليست موجودة، فكان المتحمسين مجرد سفاحين»، ومع ذلك أعجبني، فصدقته.
ولم أرَ عيون (فيرونيكا) بعد أن قررت الموت... ولم أرقص مع زوربا... ولم أحتسِ قهوة الصباح على شاطئ البحر فأتورط في (قصة حب مجوسية)... ولم أساعد (السجنة) مليكة أوفقير وعائلتها على الهرب من زنازين الملك... لم أرَ يوماً الخبث في عيني (يمام) أو (الوله التركي) في عيني (دِسيدِريا أوليبان)... ولم أسهر مع بيتهوفن وهو يدون أي من نوتاته الموسيقية... ولم ألعب السلة مع سيغموند فرويد... ولم يناقشني (زرادشت) قبل أن يتكلم كما يحلو له...
لم أعرف أياً من هؤلاء... ولا غيرهم... لكني صدقتهم جميعاً... وأحببتهم... وتواصلت معهم.
فلماذا أستغرب حين يغرم أحدهم (أو إحداهن) بأي شخصية افتراضية وتتواصل وتنفعل معها عبر النت، طالما أني تواصلت وأتواصل دائماً مع أشخاص من ورق.
نشرت بتاريخ 11/05/2008 في جريدة بلدنا
إضافة تعليق جديد