العبودية

إنما الناس عبيد الحياة و هي العبودية التي تجعل أيامهم مكتنفة بالذل و الهوان و لياليهم مغمورة بالدماء و الدموع.
دخلت القصور و المعاهد و الهياكل , وو قفت حذاء العروش و المذابح و المنابر , فرأيت العامل عبداً للتاجر , و التاجر عبدا للجندي , و الجندي عبدا للحاكم , و الحاكم عبدا للملك , و الملك عبدا للكاهن , و الكاهن عبدا للصنم ,
و الصنم تراب جبلته الشياطين و نصبته فوق رابية من جماجم الأموات.
دخلت منازل الأغنياء الأقوياء و أكواخ الفقراء الضعفاء, فرأيت الأطفال يرضعون العبودية مع اللبن, و الصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء, و الصبايا يرتدين ملابس مبطنة بالانقياد و الخنوع , و النساء يهجعن على أسرة الطاعة و الامتثال.
و أغرب ما لقيت من أنواع العبوديات و أشكالها العبودية العمياء, و هي التي توثق حاضر الناس بماضي آبائهم و تنيخ نفوسهم أمام تقاليد جدودهم و تجعلهم أجسادا جديدة لأرواح عتيقة و قبورا مكلسة لعظام بالية.
و العبودية الخرساء , و هي التي تعلق أيام الرجل بأذيال الزوجة التي يمقتها. و تلصق جسد المرأة بمضجع الزوج الذي تكرهه و تجعلهما من الحياة بمنزلة النعل من القدم…..
و العبودية الصماء , و هي التي تكره الأفراد على إتباع مشارب محيطهم و التلون بألوانه و الارتداء بأزيائه فيصبحون من الأصوات كرجع الصدى و من الأجسام كالخيالات .
و العبودية العرجاء, و هي التي تضع رقاب الأشداء تحت سيطرة المحتالين ,و تسلم عزم الأقوياء إلى أهواء الطامعين بالمجد و الاشتهار فيمسون مثل آلات تحركها الأصابع ثم توقفها ثم تكسرها.
و العبودية الشمطاء , و هي التي تهبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتسع إلى منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة , و يقطن الذل في جوار القنوط , فيشبون تعساء و يعيشون مجرمين و يموتون مرذولين .
و العبودية الرقطاء , و هي التي تبتاع الأشياء بغير أثمانها و تسمي الأمور بغير أسمائها , فتدعو الاحتيال ذكاء , و الثرثرة معرفة , و الضعف لينا , و الجبانة إباء.
و العبودية العوجاء , و هي التي تحرك بالخزف ألسنة الضعفاء فيتكلمون بما لا يشعرون , و يتظاهرون بما لا يضمرون , و يصبحون بين أيدي المسكنة مثل ثوب تطويه و تنشره .
و العبودية الحدباء, و هي التي تقود قوما بشرائع قوم آخرين .
و العبودية الجرباء , و هي التي تتوج أبناء الملوك ملوكا.
و العبودية السوداء , و هي التي تسم بالعار أبناء المجرمين الأبرياء.
و العبودية للعبودية نفسها هي قوة الاستمرار.
و لما تعبت من ملاحقة الأجيال , و مللت النظر إلى مواكب الشعوب و الأمم , جلست وحيدا في وادي الأشباح حيث تختبئ خيالات الأزمنة الغابرة وتربض أرواح الأزمنة الآتية . هناك رأيت شبحا هزيلا يسير منفردا محدقا إلى وجه الشمس فسألته : من أنت و ما اسمك ؟
قال :اسمي الحرية .
قلت : و أين أبناؤك ؟
قال: واحد مات مصلوبا و واحد مات مجنونا و واحد لم يولد بعد .
ثم توارى عن عيني وراء الضباب.

مختارات من ( العبودية )
مجموعة ( العواصف)
لجبران خليل جبران
المنتديات

التعليقات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

دعوة للمشاركة

موقع الأيهم صالح يرحب بالمشاركات والتعليقات ويدعو القراء الراغبين بالمشاركة إلى فتح حساب في الموقع أو تسجيل الدخول إلى حسابهم. المزيد من المعلومات متاح في صفحة المجتمع.