يطلب الشرقيون من الكاتب أن يكون كالنحلة التي تطوف مرفرفة في الحقول جامعة حلاوة الأزهار لتصنع منها أقراصا من العسل .
إن الشرقيين يحبون العسل و لا يستطيبون سواه مأكلا . و قد أفرطوا بالتهامه حتى تحولت نفوسهم إلى عسل تسيل أمام النار و لا تتجمد إلا إذا وضعت على الثلج .
و بالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر و يميلون إلى الأمور السلبية المسلية المفكهة و يكرهون المبادئ و التعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم و تنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة.
إنما الشرق مريض قد تناوبته العلل و تداولته الأوبئة حتى تعود السقم و ألف الألم و أصبح ينظر إلى أوصابه و أوجاعه كصفات طبيعية بل كخلال حسنة ترافق الأرواح النبيلة و الأجساد الصحيحة فمن كان خاليا منها عد ناقصا محروما من المواهب و الكمالات العلوية .
و أطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه و يتآمرون في شأنه و لكنهم لا يداوونه بغير المخدرات الوقتية التي تطيل زمن العلة و لا تبرئها .
أما تلك المخدرات المعنوية فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان . و قد تولد بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض و العاهات بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض و العاهات بعضها عن بعض . و كلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مخدرا جديدا.
و أما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات فعديدة أهمها استسلام العليل إلى فلسفة القضاء و القدر المشهورة , و جبانة الأطباء و خوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة .
و إليك أمثلة من تلك المخدرات و المسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون لمعالجة الأمراض العائلية و الوطنية و الدينية .
ينفر الرجل من زوجته و المرأة من بعلها لأسباب وضعية حيوية فيتخاصمان و يتضاربان و يتباعدان , و لكن لا يمر يوم و ليلة حتى يجتمع أهل الرجل بأهل زوجته فيتبادلوا الآراء المزخرفة و الأفكار المرصعة ثم يتفقوا على إيجاد السلام بين الزوجين , فيأتون بالمرأة و يستهوون عواطفا بالمواعظ الملفقة التي تخجلها و لا تقنعها, ثم يستدعون الرجل و يغمرون رأسه بالأقوال و الأمثال المزركشة التي تلين أفكاره و لا تغيرها . و هكذا يتم الصلح – الوقتي- بين الزوجين المتنافرين بالروح فيعودان قهرا عن إرادتهما إلى السكنى تحت سقف واحد حتى "يبوخ" الطلاء و يزول تأثير المخدر الذي استخدمه الأهل و الأنسباء فيعود الرجل إلى إظهار نفوره و مقته و المرأة إلى إزالة النقاب عن تعاستها. غير أن الذين أوجدوا الصلح في المرة الأولى يوجدونه ثانية , و من يرتشف جرعة من المخدرات لا يأبى شرب كأس دهاق.
يتمرد قوم على حكومة جائرة أو على نظام قديم فيؤلفون جمعية إصلاحية ترمي إلى النهوض و الانعتاق فيخطبون بشجاعة و يكتبون بحماسة و ينشرون اللوائح و البرامج و يبعثون الوفود و الممثلين , و لكن لا يمر شهر أو شهران
حتى نسمع بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية أو عهدت إليه بوظيفة .
أما الجمعية الإصلاحية فلا نعود نسمع عنها شيئا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلا من المخدرات المعهودة و عادوا إلى السكينة و الاستسلام.
يتظلم مغلوب ضعيف من ظالم قوي فيقول له جاره : اسكت فالعين التي تعاند السهم تفقأ.
يشك القروي بتقى الرهبان و إخلاصهم فيقول له زميله : اصمت فقد جاء في الكتاب : اسمعوا أقوالهم و لا تفعلوا أفعالهم.
يعرض التلميذ عن استظهار مباحث البصريين و الكوفيين اللغوية فيقول له أستاذه: إن الكسالى و المتوانين يختلقون لنفوسهم أعذارا أقبح من الذنوب.
تمتنع الصبية عن اتباع عوائد العجائز فتقول لها والدتها: ليست الابنة أفضل من أمها فالطريق التي سلكتها تسلكينها أنت أيضا.
يسأل الشاب متفسرا معاني الزوائد الدينية فيقول له الكاهن : من لا ينظر بعين الإيمان لا يرى في هذا العالم سوى الضباب و الدخان.
و هكذا تمر الأيام إثر الليالي , و الشرقي مضطجع على فراشه الناعم , يستيقظ دقيقة عندما تلسعه البراغيث , ثم يعود و يهجع جيلا بحكم المخدرات التي تمازج دمه و تسير في عروقه . فإذا ما قام رجل و صرخ بالنائمين و ملأ منازلهم و معابدهم و محاكمهم بالضجيج يفتحون أجفانهم المطبقة بالنعاس الأبدي ثم يقولون متثائبين : ما أخشنه فتى لا ينام و لا يدع الناس ينامون !ثم يغمضون عيونهم و يهمسون في آذان أرواحهم : هو كافر ملحد يفسد أخلاق الناشئة و يهدم مباني الأجيال و يرشق الإنسانية بالسهام السامة .
قد سألت نفسي مرات ما إذا كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المخدرات و المسكنات , فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ملتبسة, و لكنني لما سمعت الناس يجدفون على اسمي و يتأففون من مبادئي أيقنت بحقيقة يقظتي.
و عندي أن الاحتشام في إظهار الحقائق الشخصية هو نوع من الرياء الأبيض المعروف عند الشرقيين باسم التهذيب.
غدا يقرأ الأدباء المفكرون ما تقدم فيقولون متضجرين : هو متطرف ينظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة فلا يرى غير الظلام, و طالما وقف فينا نادبا نائحا باكيا علينا متأوها لحالنا.
فلهؤلاء الأدباء المفكرين أقول: أنا أندب الشرق لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مطبق.
أنا أبكي على الشرقيين لأن الضحك على الأمراض جهل مركب.
أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة لأن الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء.
أنا متطرف لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق و يبقي نصفه الآخر محجوبا وراء خوفه من ظنون الناس و تقولاتهم.
فإن كان هناك من يريد أن يبدل نوحي بالضحك و يحول اشمئزازي إلى الانعطاف و تطرفي إلى الاعتدال فعليه أن يريني بين الشرقيين حاكما عادلا و متشرعا مستقيما و رئيس دين يعمل بما يعلم و زوجا ينظر إلى امرأته بالعين التي يرى بها نفسه .
إن كان هناك من يريد أن يشاهدني راقصا و يسمعني مطبلا و مزمرا فعليه أن يدعوني إلى بيت العريس لا أن يوقفني بين المقابر.
مختارات من ( المخدرات و المباضع)
مجموعة( العواصف)
لجبران خليل جبران
إن الشرقيين يحبون العسل و لا يستطيبون سواه مأكلا . و قد أفرطوا بالتهامه حتى تحولت نفوسهم إلى عسل تسيل أمام النار و لا تتجمد إلا إذا وضعت على الثلج .
و بالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر و يميلون إلى الأمور السلبية المسلية المفكهة و يكرهون المبادئ و التعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم و تنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة.
إنما الشرق مريض قد تناوبته العلل و تداولته الأوبئة حتى تعود السقم و ألف الألم و أصبح ينظر إلى أوصابه و أوجاعه كصفات طبيعية بل كخلال حسنة ترافق الأرواح النبيلة و الأجساد الصحيحة فمن كان خاليا منها عد ناقصا محروما من المواهب و الكمالات العلوية .
و أطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه و يتآمرون في شأنه و لكنهم لا يداوونه بغير المخدرات الوقتية التي تطيل زمن العلة و لا تبرئها .
أما تلك المخدرات المعنوية فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان . و قد تولد بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض و العاهات بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض و العاهات بعضها عن بعض . و كلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مخدرا جديدا.
و أما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات فعديدة أهمها استسلام العليل إلى فلسفة القضاء و القدر المشهورة , و جبانة الأطباء و خوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة .
و إليك أمثلة من تلك المخدرات و المسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون لمعالجة الأمراض العائلية و الوطنية و الدينية .
ينفر الرجل من زوجته و المرأة من بعلها لأسباب وضعية حيوية فيتخاصمان و يتضاربان و يتباعدان , و لكن لا يمر يوم و ليلة حتى يجتمع أهل الرجل بأهل زوجته فيتبادلوا الآراء المزخرفة و الأفكار المرصعة ثم يتفقوا على إيجاد السلام بين الزوجين , فيأتون بالمرأة و يستهوون عواطفا بالمواعظ الملفقة التي تخجلها و لا تقنعها, ثم يستدعون الرجل و يغمرون رأسه بالأقوال و الأمثال المزركشة التي تلين أفكاره و لا تغيرها . و هكذا يتم الصلح – الوقتي- بين الزوجين المتنافرين بالروح فيعودان قهرا عن إرادتهما إلى السكنى تحت سقف واحد حتى "يبوخ" الطلاء و يزول تأثير المخدر الذي استخدمه الأهل و الأنسباء فيعود الرجل إلى إظهار نفوره و مقته و المرأة إلى إزالة النقاب عن تعاستها. غير أن الذين أوجدوا الصلح في المرة الأولى يوجدونه ثانية , و من يرتشف جرعة من المخدرات لا يأبى شرب كأس دهاق.
يتمرد قوم على حكومة جائرة أو على نظام قديم فيؤلفون جمعية إصلاحية ترمي إلى النهوض و الانعتاق فيخطبون بشجاعة و يكتبون بحماسة و ينشرون اللوائح و البرامج و يبعثون الوفود و الممثلين , و لكن لا يمر شهر أو شهران
حتى نسمع بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية أو عهدت إليه بوظيفة .
أما الجمعية الإصلاحية فلا نعود نسمع عنها شيئا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلا من المخدرات المعهودة و عادوا إلى السكينة و الاستسلام.
يتظلم مغلوب ضعيف من ظالم قوي فيقول له جاره : اسكت فالعين التي تعاند السهم تفقأ.
يشك القروي بتقى الرهبان و إخلاصهم فيقول له زميله : اصمت فقد جاء في الكتاب : اسمعوا أقوالهم و لا تفعلوا أفعالهم.
يعرض التلميذ عن استظهار مباحث البصريين و الكوفيين اللغوية فيقول له أستاذه: إن الكسالى و المتوانين يختلقون لنفوسهم أعذارا أقبح من الذنوب.
تمتنع الصبية عن اتباع عوائد العجائز فتقول لها والدتها: ليست الابنة أفضل من أمها فالطريق التي سلكتها تسلكينها أنت أيضا.
يسأل الشاب متفسرا معاني الزوائد الدينية فيقول له الكاهن : من لا ينظر بعين الإيمان لا يرى في هذا العالم سوى الضباب و الدخان.
و هكذا تمر الأيام إثر الليالي , و الشرقي مضطجع على فراشه الناعم , يستيقظ دقيقة عندما تلسعه البراغيث , ثم يعود و يهجع جيلا بحكم المخدرات التي تمازج دمه و تسير في عروقه . فإذا ما قام رجل و صرخ بالنائمين و ملأ منازلهم و معابدهم و محاكمهم بالضجيج يفتحون أجفانهم المطبقة بالنعاس الأبدي ثم يقولون متثائبين : ما أخشنه فتى لا ينام و لا يدع الناس ينامون !ثم يغمضون عيونهم و يهمسون في آذان أرواحهم : هو كافر ملحد يفسد أخلاق الناشئة و يهدم مباني الأجيال و يرشق الإنسانية بالسهام السامة .
قد سألت نفسي مرات ما إذا كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المخدرات و المسكنات , فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ملتبسة, و لكنني لما سمعت الناس يجدفون على اسمي و يتأففون من مبادئي أيقنت بحقيقة يقظتي.
و عندي أن الاحتشام في إظهار الحقائق الشخصية هو نوع من الرياء الأبيض المعروف عند الشرقيين باسم التهذيب.
غدا يقرأ الأدباء المفكرون ما تقدم فيقولون متضجرين : هو متطرف ينظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة فلا يرى غير الظلام, و طالما وقف فينا نادبا نائحا باكيا علينا متأوها لحالنا.
فلهؤلاء الأدباء المفكرين أقول: أنا أندب الشرق لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مطبق.
أنا أبكي على الشرقيين لأن الضحك على الأمراض جهل مركب.
أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة لأن الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء.
أنا متطرف لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق و يبقي نصفه الآخر محجوبا وراء خوفه من ظنون الناس و تقولاتهم.
فإن كان هناك من يريد أن يبدل نوحي بالضحك و يحول اشمئزازي إلى الانعطاف و تطرفي إلى الاعتدال فعليه أن يريني بين الشرقيين حاكما عادلا و متشرعا مستقيما و رئيس دين يعمل بما يعلم و زوجا ينظر إلى امرأته بالعين التي يرى بها نفسه .
إن كان هناك من يريد أن يشاهدني راقصا و يسمعني مطبلا و مزمرا فعليه أن يدعوني إلى بيت العريس لا أن يوقفني بين المقابر.
مختارات من ( المخدرات و المباضع)
مجموعة( العواصف)
لجبران خليل جبران
المنتديات
التعليقات
Re: المخدرات و المباضع
Re: المخدرات و المباضع
Re: المخدرات و المباضع
إضافة تعليق جديد