إلى "حق الحماية"
الامبريالية بوجه أودع
إيزيو
بونسيوري* ترجمة وإعداد :د.نادر
كوسا
إن إخفاء أهداف الهيمنة
الإستراتيجية والاستغلال الاقتصادي خلف ورقة التين التي تتمثل بذريعة
"الضرورة الأخلاقية المطلقة"،لإنقاذ الشعوب الأخرى من خطرٍ قد يُدرِكها
ويُصيبها أو ثمّة مجرّد خشيةٍ من وقوعه، ومن ثم تحريرهم من حكِّامٍ وأنظمة حكمٍ لانستسيغُها
أو نتَّفقُ معها، كان
دائماً وبشكلٍ تقليديٍ طريقةً مناسبة جداً
لمحاولة تبرير أكثر الأشكال السافرة للامبريالية والاستعمار والعدوان المسلح.ويتعلق
مستوى الحِدَّة في تبَنِّي شعار "الضرورة الأخلاقية المطلقة" بمستوى
المكاسب والغنائم ،فكلما كانت الغنائم التي سنحصل عليها من الحرب الاستعمارية مغريةً
وكبيرةً (لاسيما من خلال السيطرة على مصادر ومخزون الاحتياطات الإستراتيجية للمواد
الأولية )كلما ظهرت الضرورات الأخلاقية عنيفةً وقويةً ،وتطلَّبت الإسراع في الحصول
عليها بأقصى سرعة ممكنة .وقد اصْطُلح على تسمية هذا الأمر:عبء الرجل الأبيض (وهو الزعم بأن من
واجب الشعوب البيضاء مساعدة الشعوب الأخرى على التحرٌّر والتمدُّن ).
لِمَ لا !! والجميع يعرف
أن البريطانيين لم يكونوا ليدخلوا الهند ،إلا لأن السكان المحلييِّن لو تُرِكوا
على عاداتهم وطريقتهم، فإنهم كانوا سيشعرون بالسعادة وهم يحرقون الأرامل في محارق
أزواجهم الموتى وهنَّ على قيد الحياة،ويُقْدِمون على سلخ المعز وهي حيةً. وأن غاية
الفرنسيين الوحيدة في الجزائر والهند الصينية كانت بالتأكيد أن يتذوَّق السكّانُ المحليون هناك طعم مبادئ
الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والإخوة.ومن يمكنه أن يشكَّ في نوايا ملك
بلجيكا ليوبول الأول عندما تحرك بدون رحمةٍ تحت تأثير أكثر الدوافع الإنسانية نُبلاً
لاستعمار الكونغو، ليس كمُستعمَرةٍ فقط، وإنما كملكيةٍ شخصيةٍ بكل ما فيها من أرض
وإنسان وأَنعام على السواء.كما أن الإيطاليين وباعتراف الجميع غزوا أثيوبيا وضمّوها
إلى إمبراطوريتهم الفاشية فقط لتحرير الفتيات الوسيمات من نير العبودية. ويفيض
التاريخ بأمثلةٍ كثيرةٍ ومثيرة حول هذا الأمر.
قد يتوقع المرء -في
سياق المنطق- أن تطوَّر الوعي والمسؤولية السياسية في أوساط الرأي العام الغربي
منذ الحقبة الذهبية للاستعمار الأوربي، جعل مثل هذه الحجج الواهية غير مقبولة في
القرن الحادي والعشرين.
كما كان حرياً بالمرء
أن يتوقع أن هناك بعض الإحراج أو الإرباك حيال التصور الذي يجيز مهاجمة حلف شمال
الأطلسي أو الناتو لبلد لا يمثل أدنى تهديدٍ لأيِّ عضوٍ في الحلف ،لمجرد أن
الحكومة الشرعية لذلك البلد تعاملت مع تمرد مسلح بوسائل نراها عنيفةً ووحشيةً. وربما
كان من المتوقع أيضاً أن تَرى الشريحةُ المثقفةُ من الجمهور الغربي بوضوح عبر ذاك الحجاب
الرقيق والعذر الكاذب- وهو ذريعة الإنسانية- وتدركَ بشكلٍ جليٍ الخلفيةَ الحقيقية
لأهداف الهيمنة الإستراتيجية، ولكن المؤسف أن شيئاً من هذا لا يحدث.
لقد حصل على مدى
السنين الاثنتي عشرة الماضية، انتقالٌ أو تحولٌ عميقٌ جداً في الموقف الاستراتيجي
العام، وإن لم يكن في كافة بلدان الغرب، ولكن بالتأكيد في البلدان الرائدة
والمؤثرة فيه. أدى هذا التحول بشكل أساسي إلى تجدُّد الاستعداد والجاهزية لاستخدام
القوة العسكرية لدى أقل استفزاز ( أو حتى بدون وجود أو ظهور أي استفزاز كما هي
الحال في ليبيا)، سعياً وراء مصالح إستراتيجية واقتصادية مشبوهة، تلك المصالح التي
دخلت سباتاً في ظل الحرب الباردة منذ نهاية الحقبة الاستعمارية وأزمة قناة السويس
عام 1956،
،لكنها عادت اليوم وطفت على السطح مع رغبةٍ
دفينة بالثأر.وفي الحالة الخاصة لبعض البلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية
والمملكة المتحدة، تعزز هذا الاستعداد إلى حدٍّ بعيد بالإدراك المتنامي بأن القوة
العسكرية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة فعلياً لدى الحكومات المعنية لتجنب تدهورٍ شديدٍ
قد تنذر بحدوثه بوادر الانهيار المالي
والاقتصادي المتوقع.
لقد ترافق هذا التحول في المواقف الإستراتيجية،
وتوازى بل وتفعَّل عبر حملة دعائية وإعلامية مضلِّلةٍ وغير مسبوقة على الإطلاق بحدَّتِها
وفاعليَّتها، وتظهر اليوم نتائجها الدنيئةُ بكل أبعادها القذرة.
لقد تم التلاعب
بالرأي العام الغربي ببراعةٍ، وتمت تهيئَته إلى درجةٍ يبدو فيها عهد ستالين في
الاتحاد السوفيتي أمراً باهتاً وعادياً، وتتحول معها رواية أورويل التشاؤمية
(1984) إلى تنبُؤٍ متفائلٍ لطيف.فيسود التفكير المتناقض ،وتبدو أيةُ محاولةٍ جدية
لمناقشة الأهداف الإستراتيجية الحقيقية للحرب ضد ليبيا، صعبةً للغاية، لأن كافة
وسائل الإعلام الغربية، ومعظم المعلِّقين السياسيين يشاركون في الكذبة الفاحشة
ويوافقون على أن كل هذا يتم ضمن مهمة إنسانية تهدف إلى حماية السكان المدنيين.وبعبارة
أعمُّ وأوسع من حدود الأزمة الليبية الطارئة بحد ذاتها، فليس ثمَّة من يشك -ولو للحظة
واحدة- بأن "حق الحماية " الذي وكَّلنا أنفسنا به، هو أمر رائع جداً،
وأنه شيء نقوم به خارج التزاماتنا
الأخلاقية بهدف مساعدة العالم بأثره.
لقد بدأ كل شيء في
الفترة مابين عامي 1998-1999 مع حرب
كوسوفو، وهجوم حلف الناتو على يوغسلافيا، وإنه ليس من دواعي سروري ورضاي هنا أن
أذكر بأنني رأيتُ بكل وضوح ما كانت تعنيه تلك الحرب، وحذَّرتُ من المخاطر
والمنزلقات الكامنة فيها.
لقد اتخذ الرئيس
كلينتون ووزيرة خارجيته السيدة مادلين أولبرايت وعدد من الشخصيات السياسية في بلدان
حلف الناتو عدداً من الذرائع والأعذار الإنسانية الواهية لتسويغ شن الحرب بدءاً من
فرض مهلة نهائية "للسلام" و"حماية اللاجئين" ( الذين فرزتهم
حملات القصف التي شنَّها الحلف نفسه)،وصولاً إلى وضع حد لما أدّعوا أنه أعمالٌ
وحشيةٌ يقوم بها الصربُ ضد المتمردين الألبان.وبعد أربع سنوات، عندما اجتاح جورج
بوش ألابن العراق، كانت ذرائعه أقلَّ
إنسانيةً، لكنها لم تكن أقلَّ زيفاً. لقد تم زجُّ نظام صدام حسين في هجمات الحادي
عشر من أيلول، وكذلك الإدعاء بامتلاكه أسلحة دمار شامل جاهزة للاستخدام خلال 45
دقيقة،لقد قالوا لنا ذلك،وصدَّقتْهم الأغلبيةُ الساحقة من الجمهور الغربي.وتكتمل اليوم
حلقة السياسة الامبريالية، فتعود القوى العظمى إلى رفع شعار "التدخٌّل الإنساني"
كغطاء لأي عمل عسكري سينفذ خدمة لمصالحهم.
وهنا لا بد لنا من
القول أن الغرب كان يتَّبع باستمرار سياسةً خارجيةً مبنيةً غالباً إن لم نقل حصراً
على التلفيق وتحريف الحقائق والمبالغة والكذب المكشوف.وليس هناك من ينكر بأن
الرصانة والأسلوب لدى الغرب أخذا بالانحدار مع مرور الزمن,حيث انتقلنا من الأداء
المؤثِّر لكولن باول الملوِّح بزجاجة
" الجمرة الخبيثة العراقية" في الأمم المتحدة إلى سوزان رايس التي تختلق
الأوهام حول "فرق الاغتصاب" التابعة للقذافي ومخزونها غير المحدود من
الفياغرا المجانية , لكن ذلك الدبلوماسي المسكين لا يسعه أن يستخدم من الذرائع والحجج
إلا تلك التي يقدمها له/لها قسم العمليات النفسية.
إن النتيجة المدهشة
التي نتوصل إليها مما سبق،من الناحية السياسية، هي نشوء تحالف "غير مقدس"
أو خبيث بين تلك القوى والأفراد الذين يُصَنَّفون "بالصقور" أو "اليمينيين"
من جهة، و"دعاة حرية الفكر" أو "اليساريين" أو "الحمائم"
من جهة أخرى.ويلتفُّ اليوم دعاةُ الأحادية ودعاة التعددية ،المحافظون الجدد ودعاة
سياسة التدخُّل الأحرار جنباً إلى جنب خلف لواء حق الحماية لصياغة شكل جديد وأكثر
وداعة للاستعمار والامبريالية بالرغم من اختلاف مبرراتهم ومسوغاتهم.في الحقيقة،
ينتقد حزب الخضر الألماني بشدة(والذي يُفْترض أن يكون جناحاً يسارياً) رفض
المستشارة الألمانية ميركل الانضمام إلى "حلف الحماية الموحد"،في حين
بدء الدعم الأكثر حيوية في فرنسا وإيطاليا لتصعيد الحرب غلى ليبيا في الدوائر ذات الخلفية
اليسارية الشيوعية.
أما من الناحية الاجتماعية،
فإن هذا التحالف غير المقدس-وما ينشأ عنه من غياب صورة سياسية أو إيديولوجية أو
أخلاقية قوية لمعارضة الهجوم على ليبيا، وبشكل أعم : معارضة مفهوم حق الحماية بذاته-
هو من مكَّن من تحقيق هذا المستوى من الإذعان بين جمهور الغرب، دون اللجوء إلى
وسائل الشرطة السريِّة، و المخبرين، و المحاكم الصورية أو حتى معسكرات الاعتقال
الجماعي التي كانت تضطر الأنظمة الأخرى
لاستعمالها في الماضي لتحقيق نتائج مماثلة.
وعندما نسمع أحد
فلاسفة فرنسا الجدد يتبجح ويتوعد بذريعة "الضرورة الأخلاقية "لمهاجمة
ليبيا، ينتابنا شعور ويجتاحنا الانطباع بالعودة أكثرَ من ألف سنة إلى الوراء ،لنسمع
بطرس الناسك يقف واعظاً جنود الحملة الصليبية. نفس التعصب الأعمى، وذات الاعتقاد
الراسخ والمتغطرس بأن الأفكار والمعتقدات الشخصية هي الحقيقة المطلقة، نفس الازدراء الشديد والكراهية العميقة لكل من يجرؤ على تمنّي العيش
وفقاً لعاداته وديانته.وهنا يصح التشبيه لأن عظة بطرس كانت تقوم أساساً على مبدأ "حق
الحماية" لا أكثر ولا أقل .فلماذا كان هؤلاء المسلمون الأشرار يزعجون
باستمرار الحجاج المسيحيين في رحلتهم إلى الأماكن
المقدسة بالاعتداء والتعذيب، وبالتالي كان واجباً مقدساً على كلِّ الفرسان أن يهبُّوا
لإنقاذهم بحدِّ السيف.
إن هذا الدعم والتأسيس
المنطقي للحرب، أصبحا شائعين و معتمدين لدرجة واضحة ،حتى أن الشخصيات السياسية التي يمكن
أن تخسر الكثير نتيجة سقوط نظام القذافي،بدأت تتردد في وصف الأمور على حقيقتها أو
أن تتجرأ على تسمية العدوان باسمه.
لقد لجأ رئيس وزراء
إيطاليا سيلفيو برلسكوني إلى كلِّ الحيل و
المناورات المتاحة له للحد من مشاركة بلاده في الصراع وجعلها تحت عتبة الحفاظ على ماء
وجهه،وذلك في سياق محاولته إعاقة آلة
الحرب الفرنسية /البريطانية ،قبل أن يضطر في نهاية المطاف إلى الإذعان والرضوخ أمام التدخل الشخصي المباشر من الرئيسين أوباما
و ساركوزي. ورغم سيطرة برلسكوني على قسم كبير من وسائل الإعلام الإيطالية وقدرته
على التحكم بها، فقد وجد نفسه عاجزاً عن مصارحة شعبه وناخبيه مباشرة بأنَّ أوَّل
وأهمَّ أهداف باريس و لندن يتمثل في تقويض مكانة وكالة الطاقة الإيطالية التي
تملكها الدولة من خلال الهيمنة على النفط وموارد الغاز الطبيعي في ليبيا.،وبهذا تكون
هذه الحرب في الوقت ذاته حرباً على مصالح إيطاليا في منطقة البحر المتوسط.
أوردنا فيما سبق ما يكفي
لتفسير حيثيات وصولنا إلى الحالة الراهنة،
لكن الأهم هو فهم التوجُّهات المستقبلية، وأخذ الآثار الإستراتيجية لها بعين
الاعتبار.
إن اعتبار حلف الناتو
" حق الحماية" جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجيته و مبررات وجوده، واعتماده
على مبدأ " الحرب الشاملة على الإرهاب " وتوسعه فيها إلى حد بعيد، يمثِّلُ
عملياً إعلان حرب دائمة على سائر دول
العالم. ويغدو مفهوم "حق الحماية " تنصُّلاً نهائياً من مبدأ عدم
التدخل، الذي حكم العلاقة بين الدول
الغربية، أو الغربية التوجه منذ معاهدة ويستفاليا (وهي منطقة في ألمانيا) ،التي كانت
تضمن احتفاظ جميع الدول خارج حلف الأطلسي بشكل من أشكال السيادة ،ولكن فقط بالمقدار
الذي يسمح به الغرب ،علماً بأن تلك السيادة يمكن أن تُلغى ،بل إنها سوف تُلغى حتماً
عن طريق التدخل العسكري في ظروف نعرِّفُها بأنها تلك التي تشمل الإبادة الجماعية، وجرائم
الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي (وقد يضاف إليها في المستقبل الكوارث الطبيعية، والإساءة إلى البيئة وقضايا
المساواة بين الجنسين، وحقوق المثليين، وغير ذلك من الأمور... ).
طبعاً،ومن الناحية
الرسمية، يعتبر "حق الحماية " من مسؤوليات المجتمع الدولي بأجمعه،أمَّا قرار
اللجوء إلى القوة فيتوقف حصراً على هيئة الأمم المتحدة ( مجلس الأمن و الجمعية
العمومية)، وهذا أمر بات لا يخفى على طفل في الثالثة من عمره .أما من الناحية العملية
، ولأسباب تعود إلى سلسلة من الظروف الغامضة والمحيِّرة ،فإن مبررات اللجوء للتدخل
العسكري الوحيدة التي وافقت عليها الأمم المتحدة بمقتضى معايير حق الحماية تقتصر
حصراً على ما يقترحه الأعضاء الأساسيون في حلف الناتو/ المجتمع الغربي، وهي تستهدف
الدول ذات القدرات المحدودة في الدفاع عن نفسها، وتشكل-بمحض المصادفة -فرصة ثمينة لتحقيق
المصالح الإستراتيجية للدول الأساسية المذكورة أعلاه. وحتى لو سلَّمنا بأن النموذج
الأصلي كان بالفعل قائماً غلى أنبل الغايات( برغم المخاطر التي كانت جلية جداً)، فإن حق الحماية تراجع
وتردَّى بسرعة إلى شكلٍ جديد للقناع
القديم الذي طالما وضعته الإمبريالية على
وجهها. أننا ندَّعي حق " حماية " أولئك الذين نقرر اعتبارهم أصدقاء ودمى وألاعيب سهلة، بينما نقصف بالقنابل
كل من لا يروق لنا حاله.
لاشكَّ أنَّ العالم سيتنبَّهُ
للأمر يوما ما،خاصَّة وأن حالة ليبيا تُظهِرُ بوضوح وجلاء بأنه حتى إذا ما تمَّ
التوصل إلى تفاهم مع الغرب، والرضوخ لإملاءاته،
بل وتقديم كافة أشكال الدعم والمساندة له في حروبه على أعداءٍ آخرين، فإنَّ كل ذلك
لا يؤمن ضماناً تلقائياً لكسب الرضا الدائم، والاستمرار ولو بحال سيء،بل على العكس، فلا يوجد من هو خارج دائرة العقاب في
أول فرصة مؤاتية،وتحت أوهى الذرائع إذا ما كان وراء ذلك الاعتداء منفعة تُرجى.
إن بوسعِ الرئيس اليمني
علي عبد الله صالح وعائلة آل خليفة الحاكمة في البحرين، وغيرهم من الطواغيت
والمستبدين اليوم، أن يُمْعِنوا في قتل وتعذيب وسجن رعاياهم البائسين كما يحلو لهم
، ماداموا في نظر الغرب أدواتٍ طيِّعة. أما القذافي فإنه ببساطة فقد صلاحيته، رغم
أنه لم يتردد بالاستمرار في انصياعه وطاعته.وبالنسبة للنقطة الأخيرة، ربما يمكن
القول بأن الخطأ القاتل للدكتاتور الليبي يكمن في أنه لم ينفذ الصفقات المبدئية
التي كان قد وقعها مع الرئيس ساركوزي لتأمين عتاد عسكري بقيمة خمسة مليارات دولار ،
إضافة إلى محطتين لتوليد الطاقة النووية.ومما لاشك فيه، فإن فشله في تأمين هذه
الفرصة لتمويل الصناعات الفرنسية اعتُبرَ بحد ذاته "جريمةً ضد الإنسانية" لا تُنسى و لا تُغتفر.
وهكذا ،يبدو أن
السؤال الاستراتيجي الرئيسي في أيامنا هذه هو : ماذا عسى أن تفعل سائر دول العالم
لمواجهة نهج التدخل الغربي على أساس "حق الحماية ".وقد تبدو الإجابة للوهلة
الأولى " لا شيء على الإطلاق!!".فأما هؤلاء الذين يملكون ما يكفي من
القوة لردع أقوى أنصار "حق الحماية" وثنيهم عن التسرع، فلا خوف عليهم، فمن
غير المحتمل أن يكون هناك عمليات إنسانية في القوقاز الروسي أو في التيبت، ما لم يحدث
ما هو ليس بالحسبان اليوم.وأما أولئك الضِّعاف الذين لا يملكون وسائل الردع
الكافية، فما عليهم سوى الاستسلام أو اللجوء إلى المقاومة عن طريق حرب العصابات،متحملين
كل أعبائها وخسائرها البشرية المروعة.
إنَّ تحليلاً أعمق
وأكثر دقة يظهر لنا مشهداً مختلفاً تماماَ،فالطريقة القذرة التي تتم وفقها
العمليات العسكرية في ليبيا ،في ظلِّ غياب قيادة حازمة، وعدم وجود هدف استراتيجي
معلن بوضوح حتى اللحظة ،وسيادة الفوضى العارمة في توزيع الأدوار والمسؤوليات، يشير
وبشكلٍ جليٍ إلى وجود هوَّةٍ واسعة بين طموحات وشهَوات حلف الأطلسي من جهة، والمستوى
المتواضع للاستعداد والتجهيز ،خاصة على مستوى القيادة والسيطرة من جهة أخرى ( على
الأقل بغياب المشاركة المباشرة من قبل الولايات المتحدة). ثم إن المفاهيم
العملياتية الأصلية ، والمفرطة في تفاؤلها بإسقاط النظام الليبي بشكل سريع، بعد شن
حملة قصف جوي عنيف، فشلت فشلاً ذريعاً ،تماماً كما فشلت الإستراتيجية الاحتياطية
التي كانت تهدف للوصول إلى النتيجة ذاتها من خلال استنزاف القوات المسلحة الليبية
ومحاولة تدريب المتمردين على شن عمليات عسكرية أكثر نجاعة من مجرد إطلاق الرصاص في
الهواء بطريقة عشوائية أمام كاميرات التصوير الغربية(وإصابة طائرات صديقة أحياناً).وبنتيجة
ذلك سنكون مرغمين للانتقال إلى الوسيلة
اليائسة وهي اغتيال العقيد القذافي وعائلته،وترويع من يقف حوله وتشتيته.فإذا ما فشلت
هذه المحاولة أيضاً،فلن نجد أمامنا سوى خيار التقسيم ،بحيث تكون منطقة برقة الغنية
بالنفط والغاز تحت سلطة حكومةٍ مواليةٍ للغرب،ويُتركُ للقذافي مدينة طرابلس
الغرب.أما الحل والمنفذ الأخير فسيكون على خطى فيتنام المختبرة سابقاً:بدءاً من
إرسال مستشارين عسكريين،انتقالاً إلى كوادر مساندة،ثم إنزال قوات محدودة ،وصولاً
إلى غزو شامل واحتلال بري صريح.لكنني شخصياً أشكِّكُ في إمكانية حَملِ المجتمعات
الأوربية على قبول حلٍ كهذا، نظراً للالتزامات الحالية بالوضع الأفغاني.
وهكذا فإن "قوة الحماية الموحدة" تنشر
رسالة في كل الاتجاهات مفادها أن أسطورة التفوق العسكري الغربي تبقى زائفة إلى
أبعد الحدود، إذا لم تُلقِ الولايات المتحدة بكامل ثِقلها. لقد قيل أن حلف الأطلسي
لا يمكنه أن يتحمَّل نتائج إخفاقه في إخضاع القبائل الأفغانية الشرسة،حيث سيؤدي
فشله في هذا الأمر إلى تقويض وانهيار
مصداقيته.كما يتبين أن قوات الأطلسي والتحالف معاً-لكن بدون مشاركة الولايات
المتحدة-ليست قادرة حتى على إخضاع النظام الليبي الهزيل،برغم كل العمليات العسكرية
تتم في الظروف الأكثر موائمة بالنسبة لهم.فأين هي تلك المصداقية؟
يمكن للمرء أن يُلقي باللائمةِ
على تخفيض النفقات الدفاعية منذ نهاية الحرب الباردة ،أو غلبة المصالح الوطنية
الضيقة على الأهداف العامة،أو على قصور التجهيز النوعي للقوات المسلَّحة الأوربية سواء
على مستوى التسليح أو التدريب على تنفيذ العمليات الميدانية،أو ما شابه ذلك.ويمكن
لأولئك الذين يميلون إلى اعتماد نظرية المؤامرة أن يقولوا أنَّ الرئيس أوباما تمكَّن
ببراعةٍ من الإيقاع بكلٍ من فرنسا والمملكة المتحدة في شرك تكرار موقف الذلِّ الذي تعرضتا له خلال أزمة قناة السويس(1956)،وحمْلِهما
اليوم على إظهار عجزهِما أمام العالم كله.
لكن في الحقيقة تتمثَّلُ النتيجةُّ النهائية في أن دولاً كفرنسا والمملكة المتحدة (باعتبارهما
قوتين نوويتَّين، وعضوين دائمين في مجلس
الأمن الأمريكي، وشريكين قياديين في حلف الأطلسي و موقعِّين حديثاً على ميثاق
التحالف العسكري الثنائي المبرم خصيصاً لمناسبة الهجوم على ليبيا)، وفي حين أنهما
قادرتين على الدفاع عن نفسيهما ضد أي
تهديد عسكري محتمل، فإنهما في الوقت ذاته لا تمتلكان القدرة العسكرية المناسبة و
العقل الإستراتيجي المدبر لتعزيز أطماعهما
الإمبريالية المتجدِّدة من أجل بسط النفوذ والقوة. أما بقية دول حلف الأطلسي
الأوربية فغير جديرة بالذكر في هذا السِّياق. وإضافة إلى ذلك، فإن هناك الكثير من
العوامل- بدءاً من تردي الحالة الاقتصادية
ووصولاً إلى التوجهات الديموغرافية – التي تشير إلى أنه من غير المحتمل تتم إعادة تشكيل وبعث ذلك النفوذ العسكري على المدى
القريب أو المتوسط. في الواقع، إن التقنين الشديد في الإنفاق الدفاعي المطبق
حديثاُ في بلدانٍ مثل المملكة المتحدة و هولندا يشير إلى انحدارٍ متسارعٍ أكثر
فأكثر.وتبدو العبرةُ الحاسمة من حديثنا هذا في أنَّه يمكن التصدِّي وردع ومقاومة أي تدخل لحلف الناتو يقوم على حق الحماية ، عندما لا يكون مدعوماً من قبل
الولايات المتحدة الأمريكية.
ويُتَوقَّعُ أن تكون النتيجة
النهائية سباقَ تسلُّحٍ عالمياً محموماً وغير مسبوق، في حين أنَّ دولاً وأحلافاً
إقليميةً في شتى أنحاء العالم ،لا تربطها بحلف الأطلسي(ولا حتى بالغرب كله) روابط
مباشرة، تسعى جاهدةً لامتلاك القدرات العسكرية التي من شأنها أن تمنع الامبريالية
المسعورة من الاقتراب.وحتى عهد قريب، كان يُنظرُ إلى أية محاولة للقيام بذلك على
أنها عديمة الجدوى وهدراً للموارد ،ولكن التجربة الليبية توحي بغير ذلك.
إن أهمَّ سمةٍ لسباق
التسلح القادم، ستكون توقف العمل بمعاهدة الحدِّ من انتشار الأسلحة النووية (NPT) ، وحصول سباقٍ لامتلاك هذه
الأسلحة ووسائل نشرها. ويمكن بناء حجة مقنعة جدَّاً بأنَّ هذا النوع من الأسلحة هو
أفضل أداةٍ لردع أي اعتداءٍ محتمل من دولٍ أقوى، وبكلفة إجمالية لا تشكل سوى جزءٍ
صغيرٍ من كلفة اقتناء وصيانة عتاد عسكري
تقليدي بفعَّالية موازية. لقد استمر العمل بمعاهدة عدم انتشارِ الأسلحة النووية طويلاً،لأن
معظم الدول حول العالم لا ترى سبباً جوهرياً يلزمها بالتحول إلى دولً نووية،ولكن "حق
الحماية" الذي ألْزَمْنا فيه أنفُسَنا،
سيدفع بعدد من الحكومات إلى النظر إلى الأمور من زاويةٍ مختلفةٍ جدَّاً.
وإذا ما تبيَّن في
المستقبل أن عدد الدول النووية المُعْلَنة يزداد عاماَ بعد عام،فلا تقلق.والأهم من
ذلك ألا تدخل في دوَّامة الأفكار حول ما كُنَّا قد أنجزناه.وما عليك إلا أن تردد هذه
الأنشودة: نحن في الغرب نملك السلطة الحصرية لإقرار ما هو الصواب وما هو الخطأ. نحن حاملو
لواء الديمقراطية وحقوق الإنسان. من واجبنا الأخلاقي أن نأخذ هذا العالم -وبالقوة
إذا لزم الأمر-إلى حيث يتفق مع مبادئنا. إن أفعال حكوماتنا لا تخرج عن كونها
استجابة للقضايا النبيلة. نحن لا نشُنُّ حروباً عدوانية،بل نقوم بعمليات تدخلٍ إنساني استناداً إلى مبدأ "حق الحماية ".التزم بذلك، وسرعان ما ستكتشف
بأن كل الأمور تسير نحو الأفضل،وفي أفضل العوالم الممكنة.
الصورة:حق الحماية في التطبيق: بطرس الناسك يُحَرِّض المشاركين في الحملة الصليبية، عشية الهجوم النهائي على بيت المقدس بتاريخ 14 تموز 1099.
(*)إيزيو بونسينيوري :من أهم كتاب
ومحرري مجلة التقانة العسكرية،وهي بدورها من أهم الدوريات العسكرية الصادرة في
الغرب.عُرِفَ كاتبُ هذا المقال بموضوعيته حيال العلاقة القائمة بين الغرب وبقية
دول العالم،وخاصة في مواقفه من الحرب على العراق ..ونكتشف هنا موقفاً مماثلاً من
الحرب على ليبيا.
تعليق: هذه المقالة من كاتب مشهود له بالمصداقية والموضوعية في مجاله، وقد نشرت في مجلة بالغة الأهمية في مجالها.
الأيهم صالح
التعليقات
A very good article which
إضافة تعليق جديد