كان هانز روسلينغ من أبرز الباحثين في مجال الطب، قضى أغلب شبابه متطوعا في منظمة أطباء بلا حدود، ثم أصبح أستاذا لمادة الصحة العامة في معهد كارولينسكا في استوكهولم. اشتهر هانز روسلينغ بقدرته الأسطورية على تبسيط المعلومات الإحصائية لدرجة أن بعض أنواع الرسوم البيانات تسمى باسمه، ولكن أهم إنجاز له برأيي هو قياسه للجهل. أثبت هانز روسلينغ أن ما يسمى الثقافة العامة، أي المعلومات التي يحصل عليها الإنسان خلال حياته اليومية وخلال دراسته غير الاختصاصية، هي ما يسبب فشل المجتمعات في تجاوز امتحانات بسيطة حول المعارف البسيطة. في إحدى تجاربه سأل مجموعة أسئلة معرفية حول الصحة العامة لطلاب السنة الأولى في كلية الطب(شاهدوا محاضرة لروسلينغ يتحدث عن هذه التجربة)، وبالنتيجة جاءت نتيجة طلابه مخيبة للأمل، ويقول أنه لو سأل نفس الأسئلة لقرود في حديقة الحيوانات لاختارت الإجابات الصحيحة بشكل عشوائي وحصلت على نتيجة أفضل من طلابه، أي أن القرود أقدر على تجاوز امتحان معرفي حول وضع العالم من طلابه.
أعاد هانز روسلينغ التجربة على أساتذة كلية الطب في معهد كارولينسكا، وهي الجهة التي تمنح جائزة نوبل في الطب، فجاءت النتائج أقل من القرود أيضا، ثم مع أسئلة مختلفة على جمهور حفل تسلم جائزة نوبل، وهنا جاءت النتائج أفضل من القرود ولكن العلماء الحائزين على جائزة نوبل رسبوا في اختباره المعرفي، ونفذ نفس الاختبار عدة مرات، إحداها على جمهور مؤتمر TED المخصص لنشر الأفكار الجديدة والإبداعية (شاهدوها هنا).
تجارب روسلينغ تثبت أن الثقافة العامة بعيدة كل البعد عن الواقع، وأن الاعتماد على مصادر المعلومات الشائعة مثل الإعلام والكتب المدرسية والجامعية يؤدي لأخطاء معرفية كبيرة جدا، وقد صاغ روسلينغ خلاصة خبرته في كتاب "الإلمام بالحقيقة" Factfulness الذي صدر عام 2018 بعد عام من وفاته. في الكتاب يركز روسلينغ على أهمية استقاء المعلومات من مصادرها الرسمية، ويعتبر أن البنك الدولي والأمم المتحدة من أهم مصادر المعلومات التي يعتمد عليها في دراساته.
في عام 2015 حل روسلينغ ضيفا على آدم هولم في إحدى قنوات التلفزيون الدنماركي، وخلال الحوار قدم روسلينغ كمية هائلة من المعلومات المبسطة بطريقة سهلة وسلسة، ولكن مضيفه أبدى عدم ثقته بالمعلومات التي يقدمها، وسأله عن مصدرها. إجابة روسلينغ كانت مميزة "هذه معلومات إحصائية جمعها البنك الدولي والأمم المتحدة. هذه ليست مثار جدل، لا يمكنك أن تناقشها. أنا على حق وأنت مخطئ.”
يمكن أن يستنتج أي متابع للحوار أن روسلينغ يعبر عن إيمانه المطلق بما يصدر عن البنك الدولي والأمم المتحدة. ويمكن أن يقول الكثيرون أنهم لا يثقون بأي شيء يصدر عن البنك الدولي ولا عن الأمم المتحدة، فالبنك الدولي مؤسسة متخصصة في تفليس الدول لصالح كبار الاستثمارات العالمية، والأمم المتحدة تلعب عدة أدوار سلبية منها أنها الغطاء السياسي لممارسات البنك الدولي. أنا وكثيرون مثلي لا نثق بأي شيء يصدر عن هذه المؤسسات، ونحتاج للتحقق منه بطريقة ما قبل قبوله على أنه صحيح أو على أنه معرفة.
بالأصح، أنا وكثيرون مثلي لا نقبل أي شيء قبل التحقق من صحته، ونحن بهذه الحالة لا نطبق منهج روسلينغ في الإلمام الحقائق، بل نطبق منهجا مختلفا تماما يستند عدم الإيمان بنزاهة أي مصدر معلومات. وهذا المنهج معروف منذ القرن السابع عشر، وله اسم. اسمه المنهج العلمي وقد وضع أسسه العالم الفرنسي رينيه ديكارت في رسالته حول أسس العلم.
تقول القاعدة الأولى لديكارت "أنا لا أقبل أبدا صحة أي شيء قبل أن أتأكد من ذلك بشكل واضح" (المصدر) وهذه القاعدة هي أساس العلم الحديث، هي أساس نقض التفكير المبني على الإيمان، وهي قاعدة بسيطة يستطيع أي شخص أن يطبقها. طالما لم تتأكد بنفسك من صحة الشيء، فأنت لا تتعامل معه على أنه صحيح. حسب هذه القاعدة لا توجد أية مصادر موثوقة، وكل ما يصلك يبقى مجرد ادعاءات حتى تتأكد منه بطريقتك الخاصة. حسب هذه القاعدة كل ما يصلك من الإعلام ومن المدرسين ومن أصدقائك، بما في ذلك ما يستند إلى إحصائيات البنك الدولي والأمم المتحدة، كل ذلك يبقى ادعاءات حتى تتأكد منها بطريقتك الخاصة. في المنهج العلمي لا أحد يجبر أحدا على قبول أي شيء، وكل شخص يدرك أن ما لا يعرفه أكثر بكثير مما يعرفه.
حسب المنهج العلمي، ادعاءات علم التنجيم عن التوافق بين مواليد برج السطل ومواليد برج الديناصور هي مجرد ادعاءات إلى حين التأكد منها، وادعاءات علم الفيزياء دوران الأرض حول الشمس هي مجرد ادعاءات حتى يتم التأكد منها. الفرق بينهما أن نظريات الفيزياء تقبل النقض، ولكن من غير الممكن نقض نظريات علم التنجيم.
في الحلقة الأولى من السلسلة وجدنا أن من غير الممكن إثبات أية نظرية فيزيائية، فما المقصود ب "التأكد من الصحة" في المنهج العلمي، هل يعني هذا البرهان على الصحة؟ بالطبع لا، فالتأكد من الصحة أمر شخصي، مثلا هانز روسلينغ يتأكد من معلوماته عبر مقارنتها مع مصادر البنك الدولي، وأنا لا أقبل أن أتأكد من معلوماتي بهذه الطريقة، بالنسبة لي ما يعتبره روسلينغ معلومات أو حقائق هو ادعاءات حتى أتأكد أنا من صحتها بطريقة أقبلها.
المنهج العلمي، أو مبدأ الشك الديكارتي، يساعدنا في تحديد ما الذي نقبل صحته، وما الذي لا نقبل صحته. باختصار يساعدنا على معرفة ما نعرفه ومعرفة ما لا نعرفه. باستخدام مبدأ الشك نحن نعرف أننا لا نعرف ما لا نعرفه، بالمقابل يلجأ بعض الناس لما يسمى "الشك المسموم Toxic skepticism" وهو منهج في المعرفة يجعل الإنسان يعرف أنه لا يعرف أي شيء، والفرق بين المنهجين واضح، فمبدأ الشك يدفع لتوسيع المعرفة عبر التحقق من الصحة، بينما يدفع الشك المسموم إلى قبول الجهل.
موقفي من منهج "الإلمام بالحقيقة" الذي طرحه روسلينغ هو خلاصة هذه السلسلة. أنا أتفق مع روسلينغ في نتائج قياسه للجهل، ولكنني لا أتفق معه في مصادر الحقيقة ولا في نتائج كتابه عن الإلمام بالحقائق. بالنسبة لي، لا يوجد مصدر للحقيقة، وهذا هو الفرق الجوهري بين المنهج العلمي المستند على مبدأ الشك، وبين الدين العلمي المستند على الإيمان. إضافة لذلك، تطوير منهج روسلينغ الذي طرحه مع ابنه أولا في هذه المحاضرة يعني تطوير منهاج معرفي مستند على ما تقوله الأمم المتحدة ومنظماتها، وإصدار شهادات معرفية لمن يعرف ما يقوله هذا المنهج. هل يذكركم ذلك بمحاولات أخرى لقوننة المعرفة من التاريخ؟
مشكلتي الكبرى مع الأطباء الذين انساقوا مع منظمة الصحة العالمية في أزمة الكورونا هي أنهم تعاملوا مع ما يصدر عن هذه المؤسسة كحقائق، تماما كما تعامل روسلينغ مع أزمات سابقة نفذتها نفس المنظمة بنفس الطريقة، وخصوصا أزمة إيبولا التي يتحدث عنها بالتفصيل في كتابه. بالمقابل، يتحقق الأطباء العلميون من المعلومات بطريقتهم الخاصة، وقد قرأ الكثيرون منهم الدراسات العلمية المنشورة حول هذا الفيروس، وتحققوا من المعلومات بعدة طرق، وخلص بعضهم إلى أن كل ما يقال عن الفيروسات هو مجرد ادعاءات لا إثبات عليها والكثير منها يمكن نقضه ببساطة. وعندما أتحقق بنفسي من المعلومات أجد أنه لا أحد حتى الآن أثبت وجود أي فيروس في جسم أي كائن حي، ولا أحد حتى الآن أثبت قدرة الفيروسات على تسبيب العدوى المرضية ولا على الانتقال من كائن إلى آخر.
أنا لا أقبل ما يصلني من الإعلام ولا من أصدقائي ولا من أي شخص أو أي مصدر كما هو، سواء لو تعامل معه المصدر كحقائق أو وقائع أو أخبار أو إشاعات. بالنسبة لي، كلها ادعاءات أو آراء، مثلا فلان يدعي أن هناك فيروسا قاتلا، وعلان يعتقد أن الرسن يحميه من هذا الفيروس، وزيد يعتقد أن اللقاح يحميه من المرض، وعمرو يعتقد أن اللقاح هو ما يسبب المرض.
انتقلت إلى العالم الآخر لأقلل كمية هذا النوع من الادعاءات التي كنت أتعرض لها عبر الشبكات الاجتماعية، وهنا أجد ضوضاء هذه الادعاءات أقل بكثير من قبل، ولا يصلني منها إلا الادعاءات طويلة العمر، أي التي يستمر الحديث عنها أكثر من ثلاثة أيام.
توضح تجارب روسلينغ في قياس الجهل أن هذه الضوضاء تسبب الجهل ولا تزيد المعرفة، كما تؤيدها أيضا مجموعة تجارب مشابهة أجراها نسيم طالب على طلابه وحول المضاربين بالبورصة. فما رأيك أنت؟ هل تعتقد أنك تعرف ما يحصل حولك؟ وهل تقدم لك المصادر التي تعتمدها المعرفة أم تزيد جهلك؟ هل تعتمد مصادر معرفتك على المنهج العلمي ومبدأ الشك، أم على نوع من الدين التقليدي أو الدين العلمي؟
وعلى أي أساس تبني تصورك للعالم، وخططك للمستقبل؟
أدعوك للتعليق على المقالة في موقعي أو في المواقع التي تنشر كتاباتي.
الأيهم صالح
التعليقات
نقد المصادر
تشدد المدارس السويدية في كل سنوات الدراسة على تعليم الطلاب كيف يتحققون من صحة المصادر التي يستقون منها معلوماتهم، و من هم ممولي هذه المصادر و مدى موثوقيتها ورغم ذلك أرى الكثير من الطلاب الذين يعتقدون بدقة الوكيبيديا و موضوعية و حيادية يوتيوب.
إضافة تعليق جديد