الحياة الخاصة Living in the private طريقة سهلة للاستقلال عن حكم البيروقراطيين والتكنوقراط تستند على القانون الطبيعي الذي يمنع العبودية، فكل إنسان يولد وهو ذو سيادة تامة على نفسه. يعتبر أنصار الحياة الخاصة أن شهادة الميلاد التي تصدرها السلطة لا تتعلق الإنسان، بل تتعلق بشخص اعتباري تخلقه السلطة لكل طفل يولد فيها، وبهذا يتميز الإنسان، رجل أو امرأة، الذي يعيش حياة خاصة عن الشخص الذي تخلقه السلطة ويعيش حياة عامة In the public. السلطة تملك الأشخاص أو المواطنين الذين تخلقهم، ولكنها لا تملك البشر. والإنسان (رجل أو امرأة) حر ذو سيادة إلا إذا قرر الخضوع لملكية السلطة طوعا، ويتم ذلك بتبني الإنسان للوثائق التي تصدرها السلطة لشخص اعتباري خلقته.
تبنّي الحياة الخاصة يمثل إدراك الإنسان (رجل أو امرأة) لكونه كائنا ذا سيادة، مما يجعله مع السلطة على نفس المستوى، وبحيث يتم حل أي خلاف بينهما على أساس القانون الطبيعي وليس على أساس قانون الدولة.
الحياة الخاصة فكرة قديمة قدم التاريخ، ففي الماضي كان كل البشر يعيشون حياة خاصة، وحتى في العصور الوسطى عاش الكثيرون حياة خاصة بشكل مستقل تماما عن أية سلطة. في بلداننا كان أغلب البشر يعيشون حياة خاصة في بداية القرن العشرين، ولم تكن السلطة تعرف عنهم إلا ما يصرحون هم به في تعاملاتهم مع الآخرين. تطورت فكرة الحياة العامة مع تطور البيروقراطية وأصبح لدى السلطة بجميع أشكالها سجلات للأشخاص الذين تتسلط عليهم، ثم أصبحت السلطة تتعامل مع البشر حسب سجلاتها، وليس كرجال ونساء مستقلين ذوي سيادة.
في تسعينات القرن الماضي اكتملت سيطرة البنك الدولي على أغلب دول العالم عبر إغراقها بديون قبضتها الحكومات وتعهدت أن يسددها الناس لاحقا، مما جعل البشر وإنتاجهم ضمانا للديون، وهذه نفس نوعية الضمان التي كانت البنوك تفرضها على مالكي العبيد في اقتصاد العبودية. نتيجة لذلك ظهرت في سجلات البنوك شركات تمثل دولا بكامل سكانها، ومنها مثلا حكومة الإمارات المتحدة المسجلة كشركة في بورصة لندن، وجمهورية مصر العربية المسجلة كشركة في نفس البورصة. سيطرة البنك الدولي شملت كامل دول العالم، بما فيها دول تعتبر غنية مثل السويد المسجلة كشركة أيضا في بورصة لندن. تسجيل الدولة كشركة يعني أن البشر أصبحوا ملكها، أو جزءا من موجوداتها، وهو أمر رفضه العديد من أنصار القانون الطبيعي منذ وقت طويل ومازالوا يرفضونه، ولذلك أعادوا إحياء فكرة الحياة الخاصة قبل أن تأتي الأزمة الحالية.
ازداد انتشار الحياة الخاصة ردا على مخططات الحوكمة الشاملة، وهناك تجارب متعددة لتطبيقها في أماكن متعددة، وتركز أغلبها على إصدار كل إنسان للوثائق التي يحتاجها بنفسه وبشكل مستقل عن السلطة، وعلى عدم التعامل مع السلطة أو أية مؤسسات لا تقبل الوثائق التي يصدرها بنفسه. يعني ذلك بشكل طبيعي عدم التعامل مع البنوك وشركات التأمين، واستخدام العملة الورقية والنقد في التعاملات المالية، وعدم التصريح عن أية معلومات شخصية بما فيها الاسماء عند التعامل مع قطاع التعليم والصحة.
يواجه من يختارون الحياة الخاصة تحديات متعددة في التعامل مع منفذي السلطة وأجهزتها، فهم مثلا يرفضون الإدلاء بأية معلومات عن نفسهم، ويرفضون الاعتراف أنهم الأشخاص الذي تعتبرهم السلطة، ويرفضون الخضوع لقانون السلطة بل يشرحون لقضاة السلطة أنهم غير مخولين بالحكم في أي نزاع بينهم وبين السلطة لأنهم يمثلون السلطة، وهي أحد الأطراف، ولذلك لا يمكن أن تكون أحكامهم نزيهة.
للحياة الخاصة شرط واحد فقط، وهو إيمان الشخص بنفسه وبحريته وبملكيته لنفسه. كل ما تبقى يأتي بعدها، وهو مجرد تفاصيل تتعلق بحالة كل شخص على حدة. ولذلك تجد الكثيرين في العالم يعتمدونها هذه الأيام، ويعبر الكثيرون عن ذلك بشعورهم أنهم يولدون ولادة جديدة، وأن ما يأتي بعد اعتماد الحياة الخاصة لا يمكن توقعه.
تتميز الحياة الخاصة عن الأغورية والأناركية في النظرة للسلطة. الأناركية تعتبر السلطة عدوا ولا تمانع في محاربتها، والأغورية تعتبر السلطة منافسا، وتتعامل معها بمنطق المنافسة الأخلاقية، أي تقديم منتجات وخدمات أفضل لجذب الناس، أما الحياة الخاصة فلا تأخذ أي موقف مبدئي من السلطة، مما يجعل الحياة الخاصة أسهل تحقيقا وأقل متطلبات بكثير من الأغورية والأناركية.
إضافة لذلك، فبينما تتبنى الأغورية والأناركية تصورا للمجتمع، لا تتبنى الحياة الخاصة أي تصور للمجتمع، ومن يعتمدون الحياة الخاصة لا يريدون فرض أي شيء على الآخرين، بل يعيش كل منهم كما يريد ضمن الحدود التي يضعها لنفسه، مما يجعل الحياة الخاصة خيارا مميزا عندما لا يجد الإنسان حوله مجتمعا يستطيع أن ينسجم معه.
رغم أن الحياة الخاصة لا تعادي السلطة، إلا أن السلطة لا تترك أحدا لشأنه، ومن الممكن أن تحتك مع من يعيشون حياة خاصة، وهناك عشرات الأفلام على الإنترنت عن احتكاكات من هذا النوع، وفي أغلبها نجد من يعيش حياة خاصة يتعامل بمنتهى الأدب والاحترام مع الآخرين، وينجح في تحقيق أهدافه وحماية نفسه بدون خسائر.
يقدم التاريخ عدة أمثلة على تجارب ناجحة للحياة الخاصة، لعل أبرزها تجربة غاندي، فقد قرر غاندي في مرحلة من حياته الانكفاء عن الحياة العامة وتجاهل وجود السلطة تماما، وكان ذلك أساس انطلاق حركة المقاومة التي تبعته. وفي سبعينات القرن الماضي طرح فاكلاف بيندا Václav Benda في كتاباته أفكار الحياة الخاصة لمواجهة النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، ونصح الناس بالدفاع عن حريتهم واستقلالهم الشخصي ضد اعتداءات السلطة، ولاحقا تبنى فاكلاف هافل وجماعته أفكارا مشابهة خلال حملتهم لإسقاط الشيوعية في ذلك البلد، والتي انتهت بنجاحهم في ذلك عام 1989.
الحياة الخاصة أحد الخيارات المتاحة أمام الراغبين بمقاومة التكنوقراط، وهو الخيار الأسهل والأقل كلفة، ورغم أن هدفه الواضح قد يكون مجرد البقاء على قيد الحياة بعيدا عن تسلط السلطات، إلا أن تجارب غاندي وباندا تعلمنا أن حبوب سنبلة تموت قد تملأ الوادي سنابل.
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد