في ظل الكساد الكبير عام 1933 في أمريكا اجتهد الكثيرون في البحث عن حلول لمنع تكرار مثل هذه الكارثة، ومن بين من أجهدوا فكرهم في هذا الموضوع بضعة باحثين في جامعة كولومبيا في نيويورك، اعتقد هؤلاء أن سبب المشكلة هو النظام الرأسمالي الذي يعتمد على العرض والطلب، وأن هذه الطريقة في إدارة العالم غير فعالة لأنها تؤدي إلى فائض في الإنتاج في بعض المواد يقابله نقص في الإنتاج لا يلبي الحاجة في مواد أخرى، ولذلك بدؤوا بتصميم نظام اقتصادي بديل يعتمد على إدارة الموارد لتحقيق توازن مستمر في العرض والطلب. بالنتيجة توصل هؤلاء إلى تصميم نظام أسموه النظام التكنوقراطي، واعتمدوا فيه على الهندسة الاجتماعية كطريقة لإدارة موارد المجتمع بدلا من الحرية الشخصية والقرار المستقل في الإنتاج والاستهلاك.
نشر هؤلاء أبحاثهم، وحازت على قبول من نخب غاضبة على الوضع الحالي يومها، وبالنتيجة تأسست منظمة التكنوقراط Technocracy Inc التي وصل عدد أعضائها المسجلين إلى 500 ألف عضو في العالم كله. واجه هذا الانتشار مقاومة من السلطة القائمة، فالتكنوقراط ينظرون باحتقار شديد إلى البيروقراطيين والسياسيين، ويحملون المسؤولية عن المشاكل الاجتماعية للسياسيين والنظام الديمقراطي الذي يفرزهم، ويقولون علنا أن العلماء والخبراء يستطيعون إدارة المجتمع بشكل أفضل من السياسيين.
وهكذا وجد التكنوقراط نفسهم في مواجهة قوتين جبارتين، قوة النظام الرأسمالي، وقوة البيروقراطية السياسية، وهما قوتان متحالفتان في كل مكان في العالم ذلك الوقت، ولذلك تعرض التكنوقراط لحرب شعواء أدت إلى طردهم من جامعة كولومبيا والعديد من المراكز التي احتلوها، ثم انحسار التأييد لهم وتحولهم إلى فلسفة نخبوية ليس لها وجود جماهيري.
في 1970 نشر زبينيو بريجنسكي، الأستاذ في جامعة كولومبيا، كتابا عن دور أمريكا في العصر التكنوتروني يرسم فيه استراتيجيات لتعاون أمريكا وأوروبا وآسيا في إدارة مواردها استعدادا للعصر "التكنوتروني" القادم. وفي تلك الفترة حصل تغيير جذري في النظام الاقتصادي العالمي، وهو إلغاء ربط الدولار الأمريكي بالذهب في عهد نيكسون، ثم ربطه بالنفط وظهور البترو دولار، مما عزز أهمية الموارد والسيطرة عليها في النظام الجديد مقابل أهمية المال والملكية في النظام السابق. كان بريجنسكي معروفا كاستشاري استراتيجي وقد عمل مع عدة حملات رئاسية في السابق، وله علاقات متشعبة مع رجال المال والسياسة في أمريكا والعالم، وفي تلك الفترة كان استشاريا لدي الملياردير ديفيد روكفلر وشارك معه ومع هنري كيسنجر بتأسيس اللجنة الثلاثية Trilateral Commission عام 1973. ضمت هذه اللجنة خبراء من أمريكا وأوروبا وآسيا، وبدأت تعمل على تطوير استراتيجيات إدارة الموارد على مستوى القارات كلها، وترأسها بريجنسكي عند تأسيسها.
لم تتبن اللجنة الثلاثية علنا منهج التكنوقراط، ولكن مهمتها التي أعلنتها عام 1973 تقول "نحن نتبنى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد" وكل عملها ومشاريعها تنسجم مع فلسفة التكنوقراط في بناء نظام اقتصادي يستند على إدراة الموارد من قبل الخبراء كبديل للرأسمالية ونظام العرض والطلب. يجب أن لا ننسى أن التكنوقراطية تعتبر نفسها علم الهندسة الاجتماعية، وأن التكنوقراطيين تعلموا من تجربتهم الأولى في مواجهة المجتمعات أن عليهم عدم مواجهة الرأسماليين والسياسيين مباشرة بل العمل للسيطرة عليهم بالتدريج وبالخفاء، ولذلك كان من الطبيعي أن يغيروا مصطلحاتهم للتخلص من رواسب المعركة الخاسرة في بدايتهم. ولذلك أيضا يمكن أن نلاحظ أن الاستراتيجية الاقتصادية العالمية التي أخرجت للعلن عام 1992 تحت عنوان "التنمية المستدامة" sustainable development هي استراتيجية مطابقة تماما للنظام الذي صممه التكنوقراط لإدارة الموارد، ولكن بلباس جديد. أصلا يمكن اعتبار مصطلح الاستدامة sustainability الشكل الجديد للتكنوقراطية ومكافئا لها في كل شيء ولكن على نطاق أوسع، فبينما كانت التكنوقراطية الأصلية تركز على القارة الأمريكية، نظر جيلها الجديد إلى السيطرة على الموارد والنشاط البشري في العالم كله باستخدام الأمم المتحدة ومؤسساتها.
في التسعينات كانت أغلب دول العالم غارقة في الديون للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي، ومقابل التسهيلات في وفاء الديون عرض الدائنون على الدول المشاركة في برامج التنمية المستدامة وتمويلا جديدا لهذه البرامج، ومن الطبيعي أن الكثير من دول العالم تبنت ذلك بالتدريج. وهكذا بدأت تظهر مؤسسات عالمية تفرض شروطا سيادية على إدارة بعض الموارد في الدول بالتدريج، مثل وضع بعض الموارد الثقافية على قائمة الأمم المتحدة للتراث الإنساني، ومثل تخصيص مساحات شاسعة من الأراضي كمحميات طبيعية، مما يحدد حرية مالكي هذه الموارد في إدارة مواردهم لمنفعتهم ومنفعة من حولهم. ومثل اتفاقيات حماية البيئة وحماية المناخ التي تفرض قيودا على الإنتاج الصناعي. ولاحقا تم تصميم اتفاقيات عالمية في مجال التجارة وفي مجال إنتاج الغذاء تفرض قيودا سيادية على الدول وعلى الإنتاج الاقتصادي في مجالات متعددة بحجة المساعدة في تطوير التنمية المستدامة. إضافة لذلك، في تسعينات القرن الماضي ظهرت فكرة الشراكات الاقليمية، وهي أيضا على الأغلب مؤسسات تفرض قيودا سيادية على الدول في مختلف المجالات بحجة التنسيق والتعاون من أجل المصلحة المشتركة.
إضافة للسيطرة على الدول واقتصادها عبر الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والاقليمية، نجحت اللجنة الثلاثية في وضع أعضائها في مواقع قيادية في مختلف دول العالم، وخصوصا في أمريكا. كان الرئيس الأمريكي كارتر ونائبه أعضاء في هذه اللجنة، وبمجرد انتخابهم أصبح بريجنسكي مستشار الأمن القومي لهم، وأصبح 30% من أعضاء اللجنة الثلاثية جزءا من الإدارة السياسية لأمريكا. ومنذ ذلك الوقت، تولى إدارة البنك الدولي ستة من أعضاء اللجنة الثلاثية، وتولى مناصب لإدارة الاقتصاد والتجارة الأمريكية عشرات من أعضاء هذه اللجنة، ومن أعضائها المميزين رئيسة وزراء النرويج غرو هارلم برانتلاند Gro Harlem Brundtland التي كتبت "تقرير برانتلاند" بعنوان مستقبلنا المشترك، وهو تقرير نشرته الأمم المتحدة عام 1987 وأصبح المرجع الرئيسي في كل إعلانات وسياسات التنمية المستدامة منذ تبنيها كسياسة دولية عام 1992. شغلت برانتلاند عدة مناصب دولية أحدها إدارة منظمة الصحة العالمية بين 1998 و2003.
منذ تسعينات القرن الماضي نجح التكنوقراط الجدد بالسيطرة تدريجيا على أعداد كبيرة من الموارد في العالم كله، وبانتزاع الصلاحيات من الرأسماليين والبيروقراطيين، وما نشاهده حاليا من إدارة مركزية للعالم لم يحصل فجأة، بل هو عملية مستمرة منذ خمسين عاما، ولكن بعض الناس انتبهوا إليها مؤخرا.
ترافق نجاح التكنوقراط بالسيطرة على الموارد بنجاحات كبيرة موازية في مجال الهندسة الاجتماعية، ولكي نفهم استراتيجيتهم هنا يجب أن نتذكر نظرتهم للإنسان، فهم ينظرون للإنسان على أنه آلة إنتاج، أي أنه أحد موارد الإنتاج التي يمكن استخدامها، ونجاحهم باستخدام هذا المورد يعتمد على فهمهم لتفاصيل طريقة تشغيله. في هذا المجال اعتمد التكنوقراط على جمع أكبر كمية من المعلومات عن البشر كأشخاص، وليس كجماعات، وتم تطوير تقنيات متخصصة في جمع المعلومات الشخصية وتحليلها واستخدامها في توجيه سلوك الناس. يمكن تتبع بدايات هذه العمليات إلى عام 2000 على الأقل، وقد وصلت إلى مستوى فائق حاليا، بحيث تستطيع خوارزميات توجيه سلوك البشر تحديد ما يقوم كل شخص بقراءته أو بالاطلاع عليه أو بشرائه ومن أي مصدر عبر تحديد الخيارات المتاحة له، مما يعطي التكنوقراطيين قدرات كبيرة على توجيه الاستهلاك تتفوق على قدراتهم في توجيه الانتاج.
تمثل نجاحات التكنوقراط تغييرا كبيرا في طريقة إدارة العالم، وانتقالا من لامركزية الإدارة الدولية إلى إدارة مركزية لأغلب النشاط البشري عبر الأمم المتحدة ومنظماتها، ومن حرية القرار الشخصي إلى إدارة مركزية للاستهلاك بواسطة الخوارزميات والبرمجيات. ومع هذا الشكل الجديد للعالم تراجع دور اللجنة الثلاثية وظهرت مؤسسة أخرى كواجهة للتكنوقراط، وهي المنتدى الاقتصادي العالمي، ومنه أعلن التكنوقراط المرحلة القادمة من خطتهم لبناء النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وجاءت هذه المرة من كلاوس شواب، رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي، وصاحب فكرة الثورة الصناعية الرابعة. تمثل أفكار وكتابات شواب حول الوضع الطبيعي الجديد The new normal ورأسمالية الأوصياء Stakeholder capitalism وإعادة الإقلاع العظيمة The great reset تهديدا كبيرا للحرية الشخصية لكل فرد منا، ولمبدأ سيادة الشعوب والدول على أراضيها ومقدراتها، وتضع كل إنسان أمام خيار مصيري، إما الاستسلام لقيادة التكنوقراط والتحول إلى أحد مواردهم التي يمكن تصفيتها ببساطة، أو الرفض والمقاومة.
أنا مع المقاومة، وأنا أرفض كل مشروع التكنوقراط من أساسه، وأعتقد أن أفضل استراتيجية لمقاومة أي مشروع سيطرة مركزية هي اللامركزية، ولذلك أنشر سلسلة مقاومة التكنوقراط التي تركز على اللامركزية وعلى الحرية الشخصية، وأنوي تطوير تلك السلسلة بذلك الاتجاه، وأرحب بالتعاون مع من يرغبون بتعزيز الحرية الشخصية واللامركزية.
الأيهم صالح
ملاحظة: تعتمد هذه المقالات على أفكار وكتابات أهم مؤرخ للتكنوقراط، وهو باتريك وود Patrick wood
إضافة تعليق جديد