لو كنتُ عروبياً !

لو كنتُ عروبياً !

د. مفيد مسوح

في أواخر حزيران الماضي اتخذت قراراً حديدياً ألا أكتب كلمة واحدة في شؤون السياسة أو الصحافة لا لقناعة بعدم جدوى ذلك وإنما نظراً لاكتظاظ الساحات الإعلامية ومنابر الفضاء التخيلي بأعداد كبيرة ومتزايدة من الكتاب والهواة المتبرعين بالمشاركة بما يـُثـلـِج القلب من حوارات واسعة الهوامش تتكرس في رحابها مباديء التعايش وتبادل الآراء وقواعد التنافس الإيجابي لتكوين الأندية الفكرية ولتشكيل القوى الفاعلة في مجتمعاتنا الناهضة .. وبما أن المواضيع الأكثر سخونة تتطلب المزيد من الاهتمام وبما أن الخوض في حواراتها يقتضي بذل الجهد والوقت فقد مالت عندي كفـَّة الإقلاع والاكتفاء بالقراءة وتكريس الوقت المخصص للكتابة كاملاً لمواضيع أدبية – فنية.
وقد أفدت من إقلاعي هذا إذ ابتعدت تدريجياً عن متابعة الحوارات الغوغائية والمواضيع التافهة والمحاور المثيرة والاستفزازية .. وأخص بالذكر ما تتحفنا به قنوات مثيرة للجدل مثل (الجزيرة) و (المستقلة) !! فارتاحت أعصابي ومـِلـْتُ نحو الرومانسية والحلم والتأمل.
ولا يعني هذا أبداً أنني لم أشاهد عشرات اللقاءات والبرامج والحوارات والتعليقات المتنوعة .. ولكنها لم تستفزَّني للتعليق أبداً !!
وأنا اليوم لا أقول بأنني عدلت عن قراري السابق بل استأذنته في تعليق واحد، إذ لم أجد بداً من ذلك .. ربما عرف الموضوع قرائي الأعزاء قبل أن أشرع !

 

ضيفا الدكتور فيصل القاسم في حلقة الأمس من برنامجه (الظريف) – الاتجاه المعاكس – أسعدا هواة الفرجة على مأساتنا وانحطاطنا الفكري .. و ربما أسعدا مقدم البرنامج الذي، على ما يبدو، لا يروق له هدوء الحوار ومنطقيته ..
كما هي العادة وأكثر .. فالبرنامج يستضيف متناقضين منتـَقـَين بعناية تضمن سرعة تحول الحوار إلى مهاترة وقذف وتعرّض وتهكـِّم واتهام، بأسلوب بعيد عن أبسط مقومات التحضر ومثير للقرف والاشمئزاز .. ودوماً يقف مقدم البرنامج مع النقيض اليميني المتطرف الموتور وهو إن ظهر أحياناً وكأنه يستجوب هذا الطرف في شأن ليس في صالحه فإنه يشير إلى (أحدهم قال) و (أحدهم كتب) !
في حلقة الأمس استضاف الدكتور فيصل نقيضين بينهما وحدة .. واستطاع أن يفجر صراعهما كضدَّين فظهرت الوحدة ومقوماتها الهشة مليئة بالتفاهة والسخف والأفكار الرجعية. ولا غريب في أن نسمع آراءً رجعية مغرقة في التطرف تبارك السلفية وتناشد الناس لاتباع النهج الإنعزالي ومعاداة الغير دفاعاً عن تراثنا وصروحه .. ولم يعد مستغرباً أيضاً أن تــُعلـَن من على شاشة قناة الجزيرة على الملأ مباركة التطرف والسلوك الإرهابي للجماعات الظلامية التي أجمع العالم على كفاحه ضدها لما تشكله من خطر كارثي على الحضارة والإنسانية. ولكن المعيب أن يرعى الدكتور فيصل حديثاً تكرر ذكره عدة مرات ينال من شخصية مرموقة وذات مكانة عربية وإنسانية في مجالات الفكر والفلسفة والدفاع عن حقوق الإنسان وهي المفكرة الدكتورة نوال السعداوي! والحقيقة أن ما جاء على لسان الضيف الأزهري بخصوص مقولة الدكتورة سعداوي في مكانة المرأة في أدبيات الأيديولوجيات المختلفة يدينه ولا يدين فكر السعداوي النيـِّر .. ولكنه يضع الفكر العربي مجدداً في قفص الاتهام .. "ثوابتنا تقول إن شرف المرأة في نصفها الأسفل .. فهل تريد الدكتورة سعداوي تغيير ثوابتنا ؟!!"
أحسست بالخجل وحمدت الساعة المتأخرة التي منعت ابنتي من أن تكون إلى جانبي وهي تستمع إلى ثوابت انتمائنا التي ندافع عنها ضد هجمات الصليبيين وغزوهم الثقافي .. تصورت نفسي عروبياً كالسيد فيصل القاسم وفي رأسي قليل من إدراك من يعيش في القرن الحادي والعشرين .. لو كنت كذلك لاتهمت مقدم البرنامج بالعمالة لأعداء العروبة لأنه يرعي ويقدم لملايين المشاهدين آراء متطرفة تظهر العرب بأقبح أشكالهم .. لقد بدت رجعيتنا واضحة وبدا كذلك رفضنا، بلسان الأزهري وبصورة أخف بلسان نقيضه، لأية محاولة لتطوير فكرنا وبدت عدائيتنا للآخرين وميلنا إلى التشدد ورفض التحاور السلمي وإغلاق الأبواب في وجوه الداعين إلى حوار الحضارات وتبادل الثقافات .. واستغل الدكتور فيصل كل صغيرة للتأكيد على خصوصيتنا الرجعية ولاتهام كل من يحاول الخروج من ثقافة الكهوف بالعمالة .. لقد كانت الحلقة حملة واضحة موتورة ضد النور وضد من يدعو إليه ولم يتردد مديرها في كيل الاتهامات والشتائم للتقدميين الليبيراليين الساعين إلى نشر ثقافة التنوير، وقد ذكر بالإسم أحد الكتاب المرموقين واصفاً إياه بـ (السكران 24 ساعة في اليوم) !! إن لجوء السيد فيصل إلى هذا الأسلوب البعيد عن مباديء الأخلاقيات الصحفية ينم عن هزيمة كبرى لفكره الرجعي ولبرنامجه الذي لم يعد يتابعه إلا المهووسون قومياً ودينياً وتؤكد ذلك نتائج استفتاءاته المضحكة! .. ويعيد تأكيد ذلك موقفه ممن يحالفه الحظ أو الصدفة أو خطأ تقدير المشرف على عملية تلقي اتصالات المـُداخلين من المتنورين حيث يسارع إلى قطع الاتصال وإنهاء المكالمة بعبارة (وصلت الفكرة)، كما حدث بالأمس مع السيد (الأيهم صالح) من سوريا!
لو كنت عروبياً لشعرت بالخجل المزمن لما يلصقه (الاتجاه المعاكس) وضيوفه بالعروبة من صفات و مقومات وثوابت عصيـَّة على التحسين والتـنقية .. لو كنت عروبياً لما قبلت أن أتهم من قبل (الجزيرة) بالرجعية والظلامية والانعزالية .. لو كنت عروبياً لتخليت عن انتمائي دون أسف إن كان هذا الانتماء سيؤدي إلى خوف الآخرين مني ومن أنيابي ومخالبي ومن ثقافتي وإلى استهزائهم بي واضطرارهم للتعامل معي كشخص ذي احتياجات خاصة !
لقد آن الأوان كي تعرف الجماهير العربية والعروبيين أن ما يصدر عن برنامج الاتجاه المعاكس ليس في صالحهم أبداً وهو لا يمكن أن تستوعبه هوامش حرية التعبير ولا يجوز أن يكون له مكان في خانتها وإنما هو إيقاع مبرمج للعروبية وثقافاتها في فخ أذيـَّاتـُه كبيرة وعديدة أهمها توسيع وتعميم الفكر الطالباني الرجعي المتقوقع بديلاً قسرياً عن أية نهضة فكرية واجتماعية محتملة، تحت ستار الحفاظ على المقدسات.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

دعوة للمشاركة

موقع الأيهم صالح يرحب بالمشاركات والتعليقات ويدعو القراء الراغبين بالمشاركة إلى فتح حساب في الموقع أو تسجيل الدخول إلى حسابهم. المزيد من المعلومات متاح في صفحة المجتمع.