اسمه "المهـ... غانـ..."، ويعمل موظفا في شركة حكومية. في العمل يعرفون أنه لا يحترم نظام المؤسسة، فهو "يداوم على كيفه" في حين يداوم الجميع وفق نظام المؤسسة وتحت مراقبة مراقب الدوام. وهو لا ينفذ إلا الأعمال التي تعجبه، حتى لو توسل له مديره المباشر.
يعرفون أيضا أنه متميز في العلاقات العامة إضافة إلى اختصاصه، ويتقن التعامل مع المراجعين والعملاء، ولكنه يسلط لسانه الذي لا يرحم على كل مدراء مؤسسته، بمن فيهم مدير فرعه، ولا يترك أية شاردة أو واردة يراها خطأ دون أن يشير إليها علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
ولكنهم لا يعرفون أنه وضع لنفسه نظامه الخاص، وقرر أن يطبقه في مؤسسته التي لا تخضع إلا لنظامها. وعلى مدى الأعوام التي عمل فيها، يبدو أنه ينجح وما زال مستمرا في تطوير نجاحه.
ولأنهم لا يعرفون، فقد حاولوا تطويعه ضمن نظامهم، وعرضوا عليه كل أنواع المناصب، انطلاقا من رئاسة لجنة المشتريات التي يدفع البعض ثمنا باهظا لعضويتها، وإلى إدارة القسم الذي يعمل فيه، وإلى تخييره في المكان الذي يريده في المؤسسة. ولم يستطع مدير فرعه أن يفهم كيف ولماذا يرفض مثل هذه العروض!
بيني وبينه يقول "لماذا أخاف منهم، هم قبلوا أن يوضع لهم رسن، ويريدون أن يضعوا الرسن لي بأية طريقة" ويروي أن بعضهم يعتقدون أنه يعد نفسه لمنصب كبير عبر بناء سمعة لنفسه كرجل نظيف، ولذلك يخافون الاحتكاك معه لكي لا ينتقم منهم في المستقبل. ويقول ضاحكا "حتى أن أحد كبار ماسحي الجوخ في المدينة، وهو مسؤول كبير، صدق هذه الإشاعة، وفاجأني بتمسيح جوخ جعل مدير الفرع يغار ويأتي ليتأكد أنني لا أخفي شيئا، فأكل نصيبه أمام الناس"
يقول أن أكبر خطر على الفاسدين في مؤسسته هو نظامه الخاص، فهو مثلا لا يقبل أي نوع من أنواع الرشوة، ويعاقب من يعرض الرشوة عليه بطريقته. وهو على عكس أغلب زملائه يحس أن واجبه خدمة المواطنين، وحل مشاكلهم، ولذلك فهو يستخدم كل مهارته لإرضاء كل من يراجعه في المؤسسة. وبالنتيجة أصبح معروفا، وصار الناس يقصدونه، بل يطلبون مساعدته في حل مشاكل تواجههم مع مؤسسات أخرى. والغريب أنه غالبا ما ينجح في تسيير الأمور معتمدا على خبرته، وعلى سلاطة لسانه وسمعته لدى المدراء.
وهو أيضا يحترف إفساد الصفقات الفاسدة، فيدس نفسه في كل لجنة يشك أنها تشرف على "طبخة". صحيح أنه لم ينجح في منع "الطبخ" في مؤسسته، لأنه ليس مسؤولا عن كتابة العقود وتحديد التزامات موردي المؤسسة، ولكنه تمكن من رفع مستوى التوريدات عبر مراقبته وإصراره على التدقيق في أدق التفاصيل.
مؤخرا اكتشف أنه بحاجة إلى رفع مستوى وعي عملاء مؤسسته ليستطيع مكافحة الفساد فيها، فقرر الاستعانة بنظام المؤسسة نفسها ليحقق هذا الهدف، وبدأ في مساعدة المواطنين على كتابة شكاوى خطية وتسجيلها في الديوان. وهكذا زاد الضغط على دائرة الرقابة الداخلية، وعلى ديوان مدير الفرع، و اضطروا لمعالجة الشكاوى التي يقدمها المواطنون بحق موظفين يرتكبون أخطاء يراها هو جسيمة، من نمط "500 ليرة"، بينما يراها الآخرون سلوكا طبيعيا، وأصبح وعي المواطن وتعاونه سلاحا جديدا يشهره في وجه الفاسدين.
نصحته أكثر من مرة أن يستقيل، فهو قادر أن يصبح رجلا ناجحا ولامعا إذا استخدم مهارته في عمل خاص، وحذرته أن المواطنين منجم ذهب للفاسدين، ورفع مستوى وعيهم وتشجيعهم على مقاومة الفساد أمر خطر جدا عليه، لأن الفاسدين سيسرعون في محاولة التخلص منه، وقد يلفقون له تهمة فساد ليربوا به الآخرين. ولكنه لم يصغ إلي، بل بالعكس، ضاعف نشاطه، وصار يداوم أكثر، ويتدخل في أمور لم يكن يتدخل فيها في الماضي.
المهـ... غانـ... رجل عملي يتبنى إصلاح مجتمعه الصغير بنفسه، ولا يطالب الآخرين بأي شيء، فهو مثلا لم يطالب بتغيير أي نظام، ولا يهمه هل تتغير الأنظمة أم لا، ما يهمه هو نظامه الخاص، والذي لا يسمح لأحد أن يمسه.
المهـ... غانـ... لا يكتب مقالات عن الفساد في الصحف، مع أنه متمرس في مكافحة الفساد. لا ينظّر على الآخرين، مع أن قاعدته النظرية والتطبيقية أعمق من الكثيرين ممن ينظرون في هذا الموضوع.
المهـ... غانـ... لا يحب الكلام كثيرا، ولا يحب أن يكون موضوعا، ولكنه سمح لي أن أكتب عنه ليقول للكثيرين من أمثاله في وطننا أنهم ليسوا وحيدين.
أما أنا، فقد قررت نشر هذه المقالة لأؤكد لكم أن شعبنا ليس فاسدا بطبيعته، بل إنه ما زال قادرا على مقاومة الفساد الذي يحتل مؤسسات بلدنا، ولأقول للفاسدين، وللسلطة التي ترعاهم، أن المعركة لم تنته بعد، وأن المقاومة مستمرة، وتنفذ عملياتها بشكل مستمر في مناطق متعددة، وأنها جاهزة لمواجهة لكل التهم التي تحضر لها، و مستعدة لتحمل مسؤولية انتمائها وحسها الوطني، ولدفع ثمن حريتها.
لا أستطيع أن أنسى العبارة التي كتبها أديب عربي معروف بعد سقوط بغداد: "أليس لدينا غاندي".
نعم لدينا الكثير من أمثال المهاتما غاندي، ولا بد أنهم سيقولون يوما ما كما قال غاندي: في البداية تجاهلوني، ثم ضحكوا علي، ثم حاربوني، ثم انتصرت.
الأيهم صالح
www.alayham.com
يعرفون أيضا أنه متميز في العلاقات العامة إضافة إلى اختصاصه، ويتقن التعامل مع المراجعين والعملاء، ولكنه يسلط لسانه الذي لا يرحم على كل مدراء مؤسسته، بمن فيهم مدير فرعه، ولا يترك أية شاردة أو واردة يراها خطأ دون أن يشير إليها علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
ولكنهم لا يعرفون أنه وضع لنفسه نظامه الخاص، وقرر أن يطبقه في مؤسسته التي لا تخضع إلا لنظامها. وعلى مدى الأعوام التي عمل فيها، يبدو أنه ينجح وما زال مستمرا في تطوير نجاحه.
ولأنهم لا يعرفون، فقد حاولوا تطويعه ضمن نظامهم، وعرضوا عليه كل أنواع المناصب، انطلاقا من رئاسة لجنة المشتريات التي يدفع البعض ثمنا باهظا لعضويتها، وإلى إدارة القسم الذي يعمل فيه، وإلى تخييره في المكان الذي يريده في المؤسسة. ولم يستطع مدير فرعه أن يفهم كيف ولماذا يرفض مثل هذه العروض!
هددوه أكثر من مرة، وحاولوا الاعتداء على نظامه الخاص، فدافع عنه بشراسة لا تصدق، وظل يتحداهم ويقول لهم "ليس لدي خرج أخاف عليه".
بيني وبينه يقول "لماذا أخاف منهم، هم قبلوا أن يوضع لهم رسن، ويريدون أن يضعوا الرسن لي بأية طريقة" ويروي أن بعضهم يعتقدون أنه يعد نفسه لمنصب كبير عبر بناء سمعة لنفسه كرجل نظيف، ولذلك يخافون الاحتكاك معه لكي لا ينتقم منهم في المستقبل. ويقول ضاحكا "حتى أن أحد كبار ماسحي الجوخ في المدينة، وهو مسؤول كبير، صدق هذه الإشاعة، وفاجأني بتمسيح جوخ جعل مدير الفرع يغار ويأتي ليتأكد أنني لا أخفي شيئا، فأكل نصيبه أمام الناس"
يقول أن أكبر خطر على الفاسدين في مؤسسته هو نظامه الخاص، فهو مثلا لا يقبل أي نوع من أنواع الرشوة، ويعاقب من يعرض الرشوة عليه بطريقته. وهو على عكس أغلب زملائه يحس أن واجبه خدمة المواطنين، وحل مشاكلهم، ولذلك فهو يستخدم كل مهارته لإرضاء كل من يراجعه في المؤسسة. وبالنتيجة أصبح معروفا، وصار الناس يقصدونه، بل يطلبون مساعدته في حل مشاكل تواجههم مع مؤسسات أخرى. والغريب أنه غالبا ما ينجح في تسيير الأمور معتمدا على خبرته، وعلى سلاطة لسانه وسمعته لدى المدراء.
وهو أيضا يحترف إفساد الصفقات الفاسدة، فيدس نفسه في كل لجنة يشك أنها تشرف على "طبخة". صحيح أنه لم ينجح في منع "الطبخ" في مؤسسته، لأنه ليس مسؤولا عن كتابة العقود وتحديد التزامات موردي المؤسسة، ولكنه تمكن من رفع مستوى التوريدات عبر مراقبته وإصراره على التدقيق في أدق التفاصيل.
مؤخرا اكتشف أنه بحاجة إلى رفع مستوى وعي عملاء مؤسسته ليستطيع مكافحة الفساد فيها، فقرر الاستعانة بنظام المؤسسة نفسها ليحقق هذا الهدف، وبدأ في مساعدة المواطنين على كتابة شكاوى خطية وتسجيلها في الديوان. وهكذا زاد الضغط على دائرة الرقابة الداخلية، وعلى ديوان مدير الفرع، و اضطروا لمعالجة الشكاوى التي يقدمها المواطنون بحق موظفين يرتكبون أخطاء يراها هو جسيمة، من نمط "500 ليرة"، بينما يراها الآخرون سلوكا طبيعيا، وأصبح وعي المواطن وتعاونه سلاحا جديدا يشهره في وجه الفاسدين.
نصحته أكثر من مرة أن يستقيل، فهو قادر أن يصبح رجلا ناجحا ولامعا إذا استخدم مهارته في عمل خاص، وحذرته أن المواطنين منجم ذهب للفاسدين، ورفع مستوى وعيهم وتشجيعهم على مقاومة الفساد أمر خطر جدا عليه، لأن الفاسدين سيسرعون في محاولة التخلص منه، وقد يلفقون له تهمة فساد ليربوا به الآخرين. ولكنه لم يصغ إلي، بل بالعكس، ضاعف نشاطه، وصار يداوم أكثر، ويتدخل في أمور لم يكن يتدخل فيها في الماضي.
المهـ... غانـ... رجل عملي يتبنى إصلاح مجتمعه الصغير بنفسه، ولا يطالب الآخرين بأي شيء، فهو مثلا لم يطالب بتغيير أي نظام، ولا يهمه هل تتغير الأنظمة أم لا، ما يهمه هو نظامه الخاص، والذي لا يسمح لأحد أن يمسه.
المهـ... غانـ... لا يكتب مقالات عن الفساد في الصحف، مع أنه متمرس في مكافحة الفساد. لا ينظّر على الآخرين، مع أن قاعدته النظرية والتطبيقية أعمق من الكثيرين ممن ينظرون في هذا الموضوع.
المهـ... غانـ... لا يحب الكلام كثيرا، ولا يحب أن يكون موضوعا، ولكنه سمح لي أن أكتب عنه ليقول للكثيرين من أمثاله في وطننا أنهم ليسوا وحيدين.
أما أنا، فقد قررت نشر هذه المقالة لأؤكد لكم أن شعبنا ليس فاسدا بطبيعته، بل إنه ما زال قادرا على مقاومة الفساد الذي يحتل مؤسسات بلدنا، ولأقول للفاسدين، وللسلطة التي ترعاهم، أن المعركة لم تنته بعد، وأن المقاومة مستمرة، وتنفذ عملياتها بشكل مستمر في مناطق متعددة، وأنها جاهزة لمواجهة لكل التهم التي تحضر لها، و مستعدة لتحمل مسؤولية انتمائها وحسها الوطني، ولدفع ثمن حريتها.
لا أستطيع أن أنسى العبارة التي كتبها أديب عربي معروف بعد سقوط بغداد: "أليس لدينا غاندي".
نعم لدينا الكثير من أمثال المهاتما غاندي، ولا بد أنهم سيقولون يوما ما كما قال غاندي: في البداية تجاهلوني، ثم ضحكوا علي، ثم حاربوني، ثم انتصرت.
الأيهم صالح
www.alayham.com
التعليقات
Re: المهـ... غانـ...
Re: المهـ... غانـ...
Re: المهـ... غانـ...
Re: المهـ... غانـ...
إضافة تعليق جديد