سبق أن عرفت الاستحمار الإعلامي في كتاباتي السابقة على أنه أحد طرق قيادة الرأي العام، حيث تقوم جهات ما بصياغة أكاذيب إعلامية تبدو مستندة إلى وقائع، وبنشرها بغرض دفع الآخرين إلى تصديقها ثم "نقلها كالحمير" إلى الآخرين، وإلى اتخاذ مواقف بناء عليها وليس بناء على الوقائع والأحداث.
وفي هذه السلسلة من المقالات سأحاول التطرق إلى الأسس النظرية التي يتم على أساسها تطبيق الاستحمار على البشر.
يقول أستاذ البروباغاندا الأشهر في العالم، إدوار بيرني:
"إن التلاعب الذكي والواعي بالعادات والآراء المعتادة لدى الجماهير يشكل عنصرا أساسيا في المجتمع الديمقراطي. أولئك الذين يتلاعبون بالآليات الخفية للمجتمع يشكلون حكومة غير مرئية هي في الحقيقة القوة الحقيقية في بلدنا. نحن محكومون، عقولنا تصاغ، أذواقنا تشكل، أفكارنا تقترح، على الأغلب من قبل أشخاص لم نسمع بهم."
إقرار إدوارد بيرني بالدور الأساسي للبروباغاندا في توجيه المجتمعات يستند على خبرته وتطبيقاته العملية في عدة مجالات، خلاصة هذه الخبرة جعلت بيرني ينظر إلى الإنسان المتعلم كما يقول:
"التعليم يفترض أن يساعد الإنسان العادي على التحكم بمحيطه، ولكن بمجرد أن نحصل على شخص يحسن القراءة والكتابة، نحن نحصل على عقل جاهز للانقياد. وبدلا من "عقل" قدم له التعليم مجموعة من الأختام تستمد حبرها من العبارات الإعلانية وافتتاحيات الجرائد والمواد العلمية المنشورة في الصحافة [...] كل أختام أي شخص هي مجرد تكرار لأختام ملايين الأشخاص الآخرن، وعندما يتعرض هؤلاء الملايين إلى نفس المؤثرات، سنحصل على نفس طباعة الأختام."
لم يكن بيرني مؤسس مفهوم البروباغاندا، فقد استخدمت البروباغاندا قبله بكثير، ولكنه أشهر أستاذ لعلم صياغة الرأي العام، وقد اجتهد بيرني وزبائنه في تطبيق وتطوير هذه الأفكار بطرق مختلفة. ولعلهم الدافع الأساسي وراء تطوير تطبيقات علم النفس السلوكي، وتمويل أبحاث شخص مثل بوروس فريدريك سكينر في جامعة هارفارد، الذي طور نظريات علم النفس السلوكي بناء على تجارب بافلوف وواطسون، وتمكن من تصميم مفهوم "غرفة التكييف". بالنسبة ل سكينر، يمكن تكييف أي شخص للقيام بأي شيء عبر وضعه في الظرف المناسب، ثم تحريضه على اتخاذ القرارات المناسبة بمكافأته في كل مرة يتخذ فيها القرار المطلوب، وبحيث يتعلم الشخص اتخاذ القرارات المطلوبة بشكل تلقائي وبدون ضغط. هذا المفهوم مطبق بشكل مكثف في علم التعليم المعاصر، حيث تتم مكافأة الطلاب الذين ينفذون المطلوب منهم، ويتم تشجيعهم على تنفيذ المطلوب بشكل مستمر للحصول على المكافأة. وبالنتيجة يتم إنتاج "أختام" مطابقة للمعايير المطلوبة وفق مفهوم بيرني. وفي ضوء هذا التطبيق يمكن أن نفهم قول سكينر:
"السؤال الحقيقي ليس عن تمكن الآلات من التفكير ولكن عن تمكن البشر من التفكير. والغموض الذي يحيط بآلة مفكرة هو نفس الغموط الذي يحيط بإنسان مفكر"
في ضوء هذه الأفكار يتعامل منتجو البروباغاندا، أو من يسميهم بيرني الحكومة غير المرئية في المجتمع، مع الأفراد العاديين، فهم يعتبرون أن الجموع القادرة على القراءة (أو متابعة التفزيون والإنترنت في عصرنا) مجرد أختام لا تستطيع التفكير بما تفعله، ويقومون بتوجيهها (بتحبيرها) عبر أدوات تشبه "غرفة التكييف" ولكنها أكثر تطورا بكثير، وتؤدي إلى أن يعتقد متلقو البروباغاندا أن قراراتهم الحرة والواعية هي التي تقودهم لتنفيذ نشاطاتهم (طباعتهم)، في حين أن كل تفكيرهم وقراراتهم مقادة عن بعد وبشكل جماعي بالبروباغاندا عبر تطبيق مبدأ الباعث والاستجابة.
أنا أرصد تطبيقات البروباغاندا المعاصرة المنتشرة حولنا بشكل كبير، وأعتقد أن حولنا كبشر مؤسسات عملاقة تريد أن تحتل دور "حكومي بيرني الخفية" التي تحاول أن تتحكم بقراراتنا عن بعد، ولذلك أفترض أن في كل مادة إعلامية تصلني عبر القراءة أو التلفزيون أو الإنترنت بروباغاندا خفية علي أن أحذر منها لكي لا أتحول إلى مجرد ختم تم تكييفه لينتج طباعة حسب المطلوب منه حسب مصطلحات بيرني، أو إلى حمار تم تدجينه ينقل المواد المطلوبة منه إلى الآخرين ويبني مواقفه على أساسها حسب مصطلحاتي.
إضافة تعليق جديد