ينتج التكييف في غرف سكينر أشخاصا متشابهين جدا في الكثير من المواضيع، كالأختام كما يسميهم بيرني، والاختلاف عنهم ليس سهلا وقد يسبب معاناة لمن يقرر أن يخرج من الغرفة، وفي كثير من الأحيان لا يأتي الاختلاف نتيجة عوامل داخلية بل بتأثير ظرف داخلي أو حدث ما. أنا أتمنى أن تكون هذه السلسلة دافعا لبعض قرائي ليقرروا الخروج من غرف سكينر، وليرفضوا التكييف ويقرروا أن ينتزعوا حريتهم الحقيقية. وأنا قترح على من يقرر الاختلاف عن المحيط أن يبدأ بقراءة بعض المواد عن الحرية الحقيقية المستندة على المبادئ وليس على التكييف، وأعتقد أن أهم كتابات تقترح طرقا للخروج من غرفة سكينر هي كتابات ستيفن كوفي بمجملها. وأستطيع أن ألخص بعض الأفكار المتعلقة بموضوعنا من قراءاتي لأفكار كوفي.
أولا: الاصطدام بالاختلاف: تجربة التعرف على "أختام" مختلفة عن الأختام التي اعتاد عليها الشخص قد تكون بالغة التأثير عليه في بعض الأحيان. كيف تتخيلون موقف شخص اعتاد أن مؤثرا ما ينتج استجابة ما لديه عندما يشاهد نفس المؤثر ينتج استجابة مختلفة أو مناقضة عند شخص آخر؟ رد الفعل هنا قد يتراوح بين الإنكار والتغيير، ومن الطبيعي أن التكييف يدفع باتجاه الإنكار، أي رفض رد الفعل الآخر تماما، ولكن التغيير ممكن ويرتبط بالعامل التالي. يسمي كوفي هذه التجربة "تغيير النمط Paradigm shift"
ثانيا: فتح بوابة التغيير: مهما كانت تجربة الاصطدام بالاختلاف قاسية أو مؤثرة، لا يمكن أن تؤثر تأثيرا جوهريا إذا لم يقرر المرء فتح بوابة التغيير. ويقول كوفي أن بوابة التغيير تفتح من الداخل دائما، ولا يمكن لأحد أن يفتحها عنوة من الخارج. من الطبيعي أن يأتي فتح بوابة التغيير نتيجة تجربة مؤثرة، ولكنه قد يحصل أحيانا بدافع داخلي أو بتأثير نقاش أو قراءة كتاب وبدون أي مؤثر خارجي.
ثالثا: الرغبة في الاستمرار: الاختلاف عن النمط ليس سهلا، والعودة إلى غرفة سكينر مغرية لأنها تقدم إجابات جاهزة عن كل شيء بدل آلاف الأسئلة التي تسأل خارجها، وعشرات التحديات التي تخاض خارجها. ولذلك لا ينجح الجميع بالخروج من غرف سكينر نهائيا حتى لو حاولوا، فالتكييف على مدى عشرات السنوات ومن قبل المجتمع كله يلعب دورا كبيرا في إعادة من يعانون تجربة الاصطدام بالاختلاف إلى "حضن الأم الرؤوم" في غرفة سكينر.
رابعا: القدرة على الاستمرار: ليس من السهل مواجهة عالم مختلف عن كل الأنماط التي اعتادها الشخص، وللنجاح في مواجهة هذا العالم يحتاج الشخص، إضافة إلى الرغبة في المواجهة، إلى قدرات نفسية وإمكانيات علمية وقدرة على المحاكمة العقلية تمكنه من الاعتماد على نفسه وتطوير مكتسباته في الابتعاد عن غرف سكينر بالتدريج. أفضل طريقة للاستمرار برأيي هي طريقة كوفي التي تعتمد على اتخاذ خطوات صغيرة ومحسوسة بالتدريج.
خامسا: تعلم البناء: من الصعب الحياة في العراء ضمن مجتمعنا المعاصر، ومن يقرر مغادرة غرف سكينر لن يجد مكانا يؤويه في هذا المجتمع، وعليه أن يتعلم بناء عشه الخاص بنفسه ليتجنب الانجرار إلى غرف سكينر أخرى تقدم تكييفا من نوع آخر. ايضا يقدم لنا ستيفن كوفي منهجا رائعا لتعلم بناء الأعشاش الخاصة التي نريدها فعلا بناء على ما نريد فعلا أن نكونه.
في كتاباتي عن الاستحمار الإعلامي حاولت دائما استفزاز تجربة تغيير نمط لدى القراء عبر مصارحتهم بالحقيقة كما هي، وأستطيع أن أؤكد أن التجربة نجحت مع البعض، وقد خرجوا من غرف سكينر وهم الآن يبنون أعشاشهم الخاصة، في حين مازال بعض قرائي يراوحون بين الغرف المختلفة ويفضل الأغلبية من القراء الراحة التي تقدمها الغرف على عناء مواجهة الواقع بصراحة كما هو. ولأنني مؤمن أن بوابة التغيير تفتح من الداخل، فأنا أوجه كتاباتي لمن يرغب بفتح بوابة التغيير، ولذلك مثلا لا أضمنها أمثلة لكي لا أوجه القارئ إلى اتجاه معين للفهم، بل أترك له حرية تطبيق الأفكار على نفسه وتقديم الأمثلة التي تعزز أو تنقض الأفكار التي أقدمها. وإذا وجدتم هذه السلسلة جافة ومضغوطة، فهي قد كتبت كذلك لتختبر رغبتكم وقدرتكم على فتح بوابة التغيير. وأنا هنا أقترح عليكم البحث عن أمثلة للتكييف المطبق عليكم وعلى من حولكم، والكتابة عن حالات للخضوع للتكييف أو لرفض التكييف وبناء أعشاش خاصة. وإذا كنتم قد خرجتم من غرفة سكينر، وابتعدتم عن تأثير بيرني وتلاميذه، فأنا أتمنى أن تحدثوني عن العالم الذي تعيشون فيه هذه الأيام.
تمت السلسلة.
إضافة تعليق جديد