بدأت نظرية الجراثيم في أواخر القرن التاسع عشر معتمدة على دراسات باستور الملفقة كما وجدنا سابقا، ولكن الفكرة الأساسية لنظرية الجراثيم تستند إلى الأفكار الاجتماعية الشائعة في بداية الثورة الصناعية، وهي نظرة للمجتمع تعتمد على نظرية الندرة التي عبر عنها مالتوس في نظرته لتعداد السكان في أواخر القرن الثامن عشر. استخدمت هذه النظرة التي تقول أن الحياة تنافس وصراع على تحقيق المكاسب لتبرير اللامساواة والظلم الاجتماعي الذي رافق الثورة الصناعية عبر وضع اللوم على الفقراء لأنهم فقراء وتمجيد الأغنياء لأنهم استطاعوا تحقيق مكاسب على حساب الآخرين. هذه الأفكار سبقت أفكار داروين في التطور وبقاء الأقوياء ثم سميت لاحقا الداروينية الاجتماعية. من يتبنون هذه النظرة يرون كل ما حولهم عدوا يحاول انتزاع بعض مكاسبهم.
مع اكتشاب المجهر الضوئي استطاع العلماء اكتشاف الجراثيم في كل مكان، بما في ذلك في سوائل جسم الإنسان. من يعتقدون بالداروينية الاجتماعية اعتبروا أن هذه الجراثيم جزء من نظرتهم التنافسية للحياة، وعندما وجدها الأطباء في أماكن تنتشر فيها الأمراض أو في سوائل أجسام المرضى بدأ البحث عن علاقة الجراثيم بالأمراض.
لم يستطع العلماء إيجاد الجراثيم في موقع المرض في كل الأمراض، مثلا لم يستطع باستور إيجاد جرثومة مسببة لمرض الكلب، ولذلك افترض أن العامل المسبب للمرض بالغ الصغر ولا يمكن رصده بالمجهر الضوئي. ولم يستطع أحد اكتشاف جرثوم مقترن بمرض شلل الأطفال، أو السرطان، وكانت نظرية باستور تفسيرا مقبولا لهم، فاعتبروا أن هناك كائنات دقيقة تسبب الأمراض وهم لا يستطيعون كشفها. لم يكن علماء ذلك العصر يعرفون أي شيء عن هذه الكائنات، كان هناك افتراض أن هذه الجسيمات موجودة وأنها تسبب المرض. اصطلح العلماء على اطلاق اسم فيروس على أي كائن من هذا النوع، وكلمة فيروس تعني في اللاتينية السم. وهكذا أخذت نظرية الجراثيم شكلها الحالي، بدلا من البحث عن السبب الحقيقي للمرض، يتم البحث عن عامل افتراضي يعتقد العلماء أنه قد يسبب المرض.
ومع تطوير المجهر الالكتروني في ثلاثينات القرن الماضي نشرت دراسات متعددة عن جسيمات أصغر بكثير من الجراثيم وحيدة الخلية ولا يمكن مشاهدتها بالمجهر الضوئي. هذه الجسيمات ليست خلايا، بل هي جسيمات عديمة النواة تتألف من غلاف يحوي مواد ما بداخله. أيضا اكتشف العلماء أن هذه الجسيمات تنبثق من الخلايا أحيانا، وتتواجد بكثرة في موقع المرض، ولكنها كانت متعددة الأشكال والأحجام. لم يكن العلماء يعرفون ما دور هذه الأجسام ولكنهم كانوا يبحثون عن جسيمات دقيقة تسبب المرض، فاعتبروا أن العامل الممرض هو أحد هذه الجسيمات، وصنفوها جميعا ضمن تصنيف الفيروسات.
يقر كووان بوجود علاقة بين الجراثيم والأمراض، ولكنه ينفي أن تكون هذه العلاقة سببية. بالنسبة إليه، في كل حريق تجد رجال الإطفاء، وتجدهم ينتقلون بين الحرائق في نفس المنطقة، فهل تستطيع استنتاج علاقة سببية بين رجل الإطفاء والحريق؟ أنت أيضا تجد الديدان تلتهم الجثث، فهل تستطيع أن تستنتج أن الديدان هي سبب موت الجثث؟ إن وجود الجراثيم في موقع المرض لا يعني أن الجراثيم تسبب المرض، بل أن لها علاقة ما به، فما هو دور الجراثيم في المرض؟
في كل ما سبق لم يطرح كووان أفكارا جديدة، بل اكتفى بتلخيص تاريخ العلم وتطوره، ولكن عند هذه النقطة يبدأ بطرح أفكاره الجديدة. نظرية كووان تقول أن دور الجراثيم يشبه دود الديدان، الديدان تأكد الخلايا الميتة، وعندما تنتهي من أكلها تموت وتختفي. كذلك الجراثيم تأكل الخلايا الميتة في الجسم الصحيح. دور الجراثيم في أجسامنا هو تنظيف الجسم من الخلايا الميتة، وهي بذلك تقدم خدمة لنا، تساعدنا في تجديد أجسامنا، وعلاقتنا مع الجراثيم هي علاقة تعاون وفائدة متبادلة، وليست علاقة استغلال أو صراء على البقاء.
يستند كووان في هذه النظرية إلى عدة أسس، أولها فشل أنصار نظرية الجراثيم في إيجاد أي دليل على العلاقة السببية بين الجراثيم والأمراض، في حين لاحظ عالم الفيروسات ستيفان لانكا أن الفيروس الذي نجح بعزله من أعشاب البحر يساعد أعشاب البحر على النمو. والثاني هو الأبحاث الجديدة في مجال الإكزوسومات، والثالث هو النظرية الأصلية للطب التي كانت معتمدة في الطب الهندي والصيني والعربي سابقا، وحدثها أنتوان بيشامب في نفس الفترة التي وضع فيها باستور أسس نظرية الجراثيم، وأطلق عليها اسم نظرية التضاريس Terrain Theory.
الاكزوسومات جسيمات متعددة الأشكال تنبثق من كل الخلايا، ويعتقد العلماء أنها ناتجة من الخلية نفسها وليست كائنا غريبا، وقد تمت ملاحظة أنها يمكن أن تنتقل من خلية إلى أخرى. من الناحية الوصفية الإكزوسومات والفيروسات متشابهة تماما، ولكن من ناحية التأثير، فهناك دراسات متعددة (يستشهد كووان بالعديد منها، و هذه أحدها)تؤكد أن الإكزوسومات تلعب دورا إيجابيا في تعزيز المناعة وفي تنقية الخلايا من السموم.
لا يعترض أنصار نظرية الجراثيم على هذا الدور للإكزوسومات، ولكن أغلبهم يعتقدون أن الفيروسات كائنات مختلفة، هناك قلة منهم مثل جيمس هيلدريث الذي يفترض أن الفيروسات هي إكزوسومات تعمل كأحصنة طروادة في الجسم (نظريته، وتطبيقها على فيروس HIV)
يشرح كووان نظريته حول مفعول الإكزوسومات كما يلي: لنفرض أن أحد أنسجة الجسم تعرض للتسمم بعامل مسمم ما، تبدأ الخلايا في هذا النسيج بتجميع السم ثم تطرحه خارجها على شكل اكزوسومات، وتنتقل هذه الإكزوسومات في أنسجة الجسم حتى يتم طرحها بإحدى الطرق. يزداد عدد الإكزوسومات بزيادة كمية التسمم في الجسم. العثور عليها في مكان المرض لا يعني أنها سبب المرض، بل أنها نتيجة مباشرة له، وهي طريقة الخلايا في التخلص من السموم.
يضيف كووان مستشهدا بهذه الدراسة أن بعض أنواع الإكزوسومات تلعب دورا إضافيا كمراسل ضمن الجسم، فهي تنقل رسائل بين الخلايا حول وضعها وحاجاتها، وبذلك تساعد الجسم في تنظيم دفاعاته ضد السموم التي يتعرض لها. ويستشهد بهذه الدراسة ليقول أن هناك أدلة على أن بعض الكائنات تتلقى الإكزوسومات الصادرة من كائنات أخرى، أي ما يشبه العدوى، ولكن بهدف تنظيم دفاعات مناعية جماعية. ثم يقتبس من هذه الدراسة أن العلماء نقلوا الإكزوسومات التي أفرزها فأر تعرض للتسميم إلى فئرات أخرى، ولكن هذه الفئران الأخرى لم تتعرض للتسميم كما يتوقع علماء الفيروسات بل أنتجت دفاعات مناعية ضد تلك السموم.
كووان معجب جدا بدور الإكزوسومات في الطبيعة، ويعتقد أنها عامل تواصل بيولوجي يدفع التطور عبر التعاون بين الكائنات وتبادل الرسائل البيولوجية حول وسطها المحيط، ويعزز ذلك نظريته حول التطور كنتيجة للتعاون وليس كصراع على البقاء كما اعتقد داروين. (انظر تقديم هذه النظرية في المقالة الأولى من هذه السلسلة)
في حين فشل علماء الفيروسات في عزل وتنقية أي فيروس حتى الآن، فقد نجح علماء الإكزوسومات في عزل وتنقية الإكزوسومات وفي نقلها من كائن لآخر بشكل طبيعي وبدون حقن. وهذا سبب إضافي يدفع كووان للقول أن ما يعتقد علماء الفيروسات أنه الفيروسات المسببة للأمراض ليس إلا إكزوسومات تلعب دورا إيجابيا في مناعة الجسم وهي ضرورية للحياة، ولذلك يقول أن أي حرب على الفيروسات هي حرب على الحياة.
إذا لم تكن الفيروسات والجراثيم سبب المرض، فما الذي يسبب الأمراض؟ سنرى رأي كووان حول المرض في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.
إضافة تعليق جديد