من المسؤول عن غياب مهنة كاملة في سوريا (العمل الاستشاري الهندسي )
الدكتور جمال عمران :رئيس قسم هندسة وإدارة التشييد –جامعة تشرين كلية الهندسة المدنية
يبدو العنوان للوهلة الأولى غريباً جداً فالقارئ العادي يعرف جيداً بأن البلد ملئ بالمكاتب الهندسية ويسود الاعتقاد بأن هناك وفرة كبيرة في عدد المهندسين لدرجة أن الحكومة قد تخلت الآن عن الالتزام الكامل بتوظيفهم .
ليس المقصود بالعمل الاستشاري الهندسي ما تقوم به مجموعة كبيرة جداً من المكاتب الهندسية المنتشرة في جميع أرجاء القطر بأعداد هائلة , والتي تتشكل عادة من فرد واحد هو صاحب المكتب ونميز هنا بين صنفين الأول يعمل بشكل حقيقي ويكون في أحسن الأحوال في وضعية تسمح له بتشغيل بعض المتدربين أو طلاب هندسة بشكل موسمي وصنف أخر وهو الأكبر لا يعمل بل ينتظر ما يمكن أن يدر عليه الصندوق المشترك من عائدات شهرية , وفي أيام انتعاش سوق البناء تكون هذه العائدات أعلى من دخل مهندس موظف مما دفع عدد كبير من المهندسين في السنوات السابقة إلى ترك العمل الوظيفي وفتح مكتب هندسي بانتظار هذه العائدات .
العمل الذي تقوم به هذه المكاتب هو وضع تصاميم معمارية ومدنية وكهربائية وميكانيكية لأبنية عالية أو عادية سكنية , مشاريع لا يزيد فيها مستوى الخبرة الهندسية عن خبرة طالب هندسة متخرج حديثاً .
المشاريع الكبرى الحقيقة والتي هي غالباً مشاريع تنموية في البنى التحتية تقوم بها الدولة هي في الواقع المجموع الاستثماري السنوي لموازنة الحكومة والذي زاد في السنوات الأخيرة عن (200 مليار ليرة سورية خفض في العام الحالي إلى 180 مليار .) ولقد انفردت الشركات العامة بإنجاز العمل الاستشاري لهذه الكتلة النقدية الكبيرة وهذه الشركات هي : الشركة العامة للدراسات والاستشارات _ الشركة العامة للدراسات المائية – وبعض المكاتب الصغيرة التابعة لشركات الإنشاءات . وهناك أيضاً الوحدات المهنية الجامعية – وبعض المكاتب الاستشارية الأجنبية والعربية ولكن بشكل محدود جداً.
لا يتجاوز عدد الاستشاريين لدى هذه الجهات المذكورة أعلاه الثلاث آلاف استشاري من جميع الاختصاصات (مدني –معماري كهربائي –ميكانيكي –جيولوجي –مائي 000) والسؤال المطروح هنا كيف يقوم هذا العدد القليل من الاستشاريين بإنجاز هذه الأعمال ؟
هذا من ناحية لغة الأرقام . فهل يمكن أن نطرح الآن سؤالاً مشروعاَ من الذي يقوم بعمل هؤلاء الاستشاريين الغائبين ؟ وهذا يشكل حوالي 90% من العمل المفترض . أي بلغة الأرقام هناك 90% من العمل الهندسي لا ينجز . هل يفسر هذا الخلل النوعي الكبير الذي حصل ويحصل في المشاريع الكبرى . وهل يفسر هذا نسب الإنجاز المنخفضة والملاحق الكبيرة للعقود بالإضافة إلى الغموض الكبير في المواصفات الذي يتسبب في إرباكات كبيرة في الإنجاز ناهيك عن المشاريع التي دخلت مرحلة الفشل الحقيقي . أو بعض المشاريع التي لا تؤدي الغرض المطلوب منها وهناك أمثلة كثيرة لا حصر لها على ذلك .
ثم أن هناك أمر أخر يتعلق بمستوى عمل شركات القطاع العام الاستشارية ,فلقد لاحظنا في مناسبات عدة بأن صناديق التمويل العربية والأجنبية لم تعترف بالشركات العامة على أنها شركات مؤهلة لديها للقيام بالأعمال الاستشارية في القطر وعادة ما يتم إجبارنا على التعاقد مع شركات عربية أو أجنبية مؤهلة . ولأن هذه الشركات العامة تستفيد من احتكارها للمشاريع ولم تتنبه إلى ضرورة رفع نوعية و سوية عملها لكي تقف إلى جانب الشركات العربية أو حتى الأجنبية على مستوى منافس واحد . ولعل مستوى الرواتب والأجور يشكل عاملاً حاسماً في هذا الأمر.
مرت سنوات طويلة للآن دون أن يتم السماح للقطاع الخاص بالدخول مضمار العمل الاستشاري الهندسي مما حرم البلد من توطين هذه الصناعة ( من المألوف عالمياً اعتبار العمل الاستشاري فرعاً صناعياً رافداً للدخل القومي ) . في حين أننا نعرف جيداً بان هناك الكثير من المهندسين السوريين في الخارج يعملون أو حتى أحياناً يملكون شركات استشارية عربية وأجنبية ( وكاتب المقال عمل لمدة 5 سنوات لدى شركة استشارية في ألمانيا).
يصرف سنوياً قرابة المليار دولار على العمل الاستشاري في المنطقة العربية نصيب الشركات الاستشارية العربية منها حوالي الـ17% ونصيب سوريا من ذلك لاشيء . إلى متى ستسمر هذه الحالة من الغياب الكامل لمهنة تعتبر من أهم المهن في العملية التنموية لمجتمع . وألا يحق أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء عدم السماح بنشوء عمل استشاري هندسي في سوريا؟؟
بقي أن نشير إلى أن النقص الهندسي في الدراسات للمشاريع واختفاء مراحل كاملة عنه مثل دراسات الجدوى الاقتصادية ودراسات الهندسة القيمية ودراسات الأثر البيئي . واختصار مراحل العمل التصميمي إلى مرحلة واحدة فقط, كل ذلك مجتمعاً يمكن أن يهيئ للفساد بكافة أشكاله جواً خصباً للنمو والتمدد . فعندما تكون المواصفات عائمة وغير محددة بشكل جيد وعندما يغيب التحديد يكون من السهل التلاعب بالكميات والمواصفات وهذا الأمر حصل فعلاً في السابق , وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي : ألا يبدو بأن غياب مهنة الاستشاري يستفيد منها الشريحة الفاسدة بشكل أساسي . وهل يمكن أن يكون لهذه الشريحة دور في تغييب مهنة الاستشاري . إذا كان الجواب بنعم فمعنى ذلك أن هناك كارثة كبيرة تحصل .حرصت الحكومة في السنوات السابقة على إعطاء القطاع الخاص دوراً كبيراً في الصناعات المختلفة ,لا بل أن القطاع الخاص يسيطر على بعض الصناعات النسيجية والصناعات الغذائية, فمن الأولى ربما كان أن يدخل القطاع الخاص هذا المجال الهام والحيوي والذي يرفع من المستوى الاقتصادي والعلمي للوطن .
فما هو العائق الآن من تشجيع القطاع الخاص لبناء شركات استشارية وطنية تقوم بتطوير المهنة داخل القطر لا بل تحاول أيضاً أن تدخل السوق العربية أو حتى ربما خارج حدود الوطن العربي.
بقي أن نذكر بأن مستوى المهندس السوري هو ليس بأقل من أخيه اللبناني والمصري والأردني وهذه الأقطار الشقيقة تملك شركات استشارية ضخمة وكبيرة ومعروفة عالمياً لدرجة أن أحد الشركات الاستشارية اللبنانية كان لها ترتيب عالمي مع العشرة الكبار عالمياً.
الخطوة الأولى يجب أن تبدأ من التشريعات فهناك حاجة إلى تشريع يوضح آليات ومراحل العمل الهندسي وآخر يوضح الأسس التي يجب أن تقوم عليها هذه الشركات الاستشارية. سوق العمل كبير جداً .ويجب أن نبدأ فوراً بمعالجة هذا الموضوع .
الدكتور جمال عمران :رئيس قسم هندسة وإدارة التشييد –جامعة تشرين كلية الهندسة المدنية
يبدو العنوان للوهلة الأولى غريباً جداً فالقارئ العادي يعرف جيداً بأن البلد ملئ بالمكاتب الهندسية ويسود الاعتقاد بأن هناك وفرة كبيرة في عدد المهندسين لدرجة أن الحكومة قد تخلت الآن عن الالتزام الكامل بتوظيفهم .
ليس المقصود بالعمل الاستشاري الهندسي ما تقوم به مجموعة كبيرة جداً من المكاتب الهندسية المنتشرة في جميع أرجاء القطر بأعداد هائلة , والتي تتشكل عادة من فرد واحد هو صاحب المكتب ونميز هنا بين صنفين الأول يعمل بشكل حقيقي ويكون في أحسن الأحوال في وضعية تسمح له بتشغيل بعض المتدربين أو طلاب هندسة بشكل موسمي وصنف أخر وهو الأكبر لا يعمل بل ينتظر ما يمكن أن يدر عليه الصندوق المشترك من عائدات شهرية , وفي أيام انتعاش سوق البناء تكون هذه العائدات أعلى من دخل مهندس موظف مما دفع عدد كبير من المهندسين في السنوات السابقة إلى ترك العمل الوظيفي وفتح مكتب هندسي بانتظار هذه العائدات .
العمل الذي تقوم به هذه المكاتب هو وضع تصاميم معمارية ومدنية وكهربائية وميكانيكية لأبنية عالية أو عادية سكنية , مشاريع لا يزيد فيها مستوى الخبرة الهندسية عن خبرة طالب هندسة متخرج حديثاً .
المشاريع الكبرى الحقيقة والتي هي غالباً مشاريع تنموية في البنى التحتية تقوم بها الدولة هي في الواقع المجموع الاستثماري السنوي لموازنة الحكومة والذي زاد في السنوات الأخيرة عن (200 مليار ليرة سورية خفض في العام الحالي إلى 180 مليار .) ولقد انفردت الشركات العامة بإنجاز العمل الاستشاري لهذه الكتلة النقدية الكبيرة وهذه الشركات هي : الشركة العامة للدراسات والاستشارات _ الشركة العامة للدراسات المائية – وبعض المكاتب الصغيرة التابعة لشركات الإنشاءات . وهناك أيضاً الوحدات المهنية الجامعية – وبعض المكاتب الاستشارية الأجنبية والعربية ولكن بشكل محدود جداً.
لا يتجاوز عدد الاستشاريين لدى هذه الجهات المذكورة أعلاه الثلاث آلاف استشاري من جميع الاختصاصات (مدني –معماري كهربائي –ميكانيكي –جيولوجي –مائي 000) والسؤال المطروح هنا كيف يقوم هذا العدد القليل من الاستشاريين بإنجاز هذه الأعمال ؟
من المعروف عالمياً في بأن نسبة العمل الاستشاري الهندسي في المشاريع الكبرى تشكل ما بين 10-15% من كلفة المشروع وإذا أخذنا النسبة الأدنى أي 10% تكون الكلفة المتوقعة للعمل الهندسي في العام الواحد حوالي 20 مليار ليرة سورية وفي حال فرضنا أن كلفة رجل /سنة للاستشاري هي بحدود 600 ألف ليرة سورية أي بمعدل 1000 دولار شهرياً ( وهو المعدل الذي تحسب به الشركات العامة كلفة الاستشاري المحلي) سيكون عدد الاستشاريين اللازم في عام واحد لهذه الخطة الاستثمارية بحدود 33000 استشاري أي أن هناك نقصاً في عدد الاستشاريين المتوفر بحدود ثلاثون ألف استشاري !! .
هذا من ناحية لغة الأرقام . فهل يمكن أن نطرح الآن سؤالاً مشروعاَ من الذي يقوم بعمل هؤلاء الاستشاريين الغائبين ؟ وهذا يشكل حوالي 90% من العمل المفترض . أي بلغة الأرقام هناك 90% من العمل الهندسي لا ينجز . هل يفسر هذا الخلل النوعي الكبير الذي حصل ويحصل في المشاريع الكبرى . وهل يفسر هذا نسب الإنجاز المنخفضة والملاحق الكبيرة للعقود بالإضافة إلى الغموض الكبير في المواصفات الذي يتسبب في إرباكات كبيرة في الإنجاز ناهيك عن المشاريع التي دخلت مرحلة الفشل الحقيقي . أو بعض المشاريع التي لا تؤدي الغرض المطلوب منها وهناك أمثلة كثيرة لا حصر لها على ذلك .
ثم أن هناك أمر أخر يتعلق بمستوى عمل شركات القطاع العام الاستشارية ,فلقد لاحظنا في مناسبات عدة بأن صناديق التمويل العربية والأجنبية لم تعترف بالشركات العامة على أنها شركات مؤهلة لديها للقيام بالأعمال الاستشارية في القطر وعادة ما يتم إجبارنا على التعاقد مع شركات عربية أو أجنبية مؤهلة . ولأن هذه الشركات العامة تستفيد من احتكارها للمشاريع ولم تتنبه إلى ضرورة رفع نوعية و سوية عملها لكي تقف إلى جانب الشركات العربية أو حتى الأجنبية على مستوى منافس واحد . ولعل مستوى الرواتب والأجور يشكل عاملاً حاسماً في هذا الأمر.
مرت سنوات طويلة للآن دون أن يتم السماح للقطاع الخاص بالدخول مضمار العمل الاستشاري الهندسي مما حرم البلد من توطين هذه الصناعة ( من المألوف عالمياً اعتبار العمل الاستشاري فرعاً صناعياً رافداً للدخل القومي ) . في حين أننا نعرف جيداً بان هناك الكثير من المهندسين السوريين في الخارج يعملون أو حتى أحياناً يملكون شركات استشارية عربية وأجنبية ( وكاتب المقال عمل لمدة 5 سنوات لدى شركة استشارية في ألمانيا).
يصرف سنوياً قرابة المليار دولار على العمل الاستشاري في المنطقة العربية نصيب الشركات الاستشارية العربية منها حوالي الـ17% ونصيب سوريا من ذلك لاشيء . إلى متى ستسمر هذه الحالة من الغياب الكامل لمهنة تعتبر من أهم المهن في العملية التنموية لمجتمع . وألا يحق أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء عدم السماح بنشوء عمل استشاري هندسي في سوريا؟؟
بقي أن نشير إلى أن النقص الهندسي في الدراسات للمشاريع واختفاء مراحل كاملة عنه مثل دراسات الجدوى الاقتصادية ودراسات الهندسة القيمية ودراسات الأثر البيئي . واختصار مراحل العمل التصميمي إلى مرحلة واحدة فقط, كل ذلك مجتمعاً يمكن أن يهيئ للفساد بكافة أشكاله جواً خصباً للنمو والتمدد . فعندما تكون المواصفات عائمة وغير محددة بشكل جيد وعندما يغيب التحديد يكون من السهل التلاعب بالكميات والمواصفات وهذا الأمر حصل فعلاً في السابق , وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي : ألا يبدو بأن غياب مهنة الاستشاري يستفيد منها الشريحة الفاسدة بشكل أساسي . وهل يمكن أن يكون لهذه الشريحة دور في تغييب مهنة الاستشاري . إذا كان الجواب بنعم فمعنى ذلك أن هناك كارثة كبيرة تحصل .حرصت الحكومة في السنوات السابقة على إعطاء القطاع الخاص دوراً كبيراً في الصناعات المختلفة ,لا بل أن القطاع الخاص يسيطر على بعض الصناعات النسيجية والصناعات الغذائية, فمن الأولى ربما كان أن يدخل القطاع الخاص هذا المجال الهام والحيوي والذي يرفع من المستوى الاقتصادي والعلمي للوطن .
فما هو العائق الآن من تشجيع القطاع الخاص لبناء شركات استشارية وطنية تقوم بتطوير المهنة داخل القطر لا بل تحاول أيضاً أن تدخل السوق العربية أو حتى ربما خارج حدود الوطن العربي.
بقي أن نذكر بأن مستوى المهندس السوري هو ليس بأقل من أخيه اللبناني والمصري والأردني وهذه الأقطار الشقيقة تملك شركات استشارية ضخمة وكبيرة ومعروفة عالمياً لدرجة أن أحد الشركات الاستشارية اللبنانية كان لها ترتيب عالمي مع العشرة الكبار عالمياً.
الخطوة الأولى يجب أن تبدأ من التشريعات فهناك حاجة إلى تشريع يوضح آليات ومراحل العمل الهندسي وآخر يوضح الأسس التي يجب أن تقوم عليها هذه الشركات الاستشارية. سوق العمل كبير جداً .ويجب أن نبدأ فوراً بمعالجة هذا الموضوع .
التعليقات
Re: د. م. جمال عمران: من المسؤول عن غياب مهنة كاملة في سوريا
إضافة تعليق جديد