توقفت عن متابعة الأخبار منذ سنوات عديدة، وتوقفت عن متابعة الشبكات الاجتماعية منذ أكثر من عام ونصف. أنا الآن أعيش في عالم مختلف عن العالم الجديد الذي يعيش فيه الكثيرون ممن أعرفهم. في عالمي حاليا لا تصلني الإشاعات، ولا أنشغل بالمقاطعات والأخبار التافهة، ولا أكترث للحملات الإعلامية. نمط حياتي الحالي يعطيني فرصة فريدة لأعيد استيعاب العالم ولأفكر بما حصل ويحصل حولي مركزا على الوقائع والمعلومات التي يمكن التحقق منها، وبدون أي تأثير للتشويش الذي يسببه الإعلام. في هذه السلسلة من المقالات سأطرح بعضا من الأفكار التي يصعب أن يلاحظها من يعيشون في العالم الجديد، أي من يخضعون لتأثير الإعلام اليومي في عالمهم.
يبدو الفرق بين العالمين واضحا عند مناقشة أية مشكلة تبدو ملحة في العالم الجديد، وكمثال على ذلك لنناقش ما يسمى بمشكلة الطائفية في سوريا. إن الاستماع إلى نقاشات مثقفي العالم الجديد أو متابعة كتاباتهم توحي أن الطائفية مشكلة عصية في المجتمع السوري، وقد حاول العديدون من مثقفي العالم الجديد التفكير في حلول لهذه المشكلة ونشروا اقتراحات محددة لمواجهتها.
بالنسبة لي، أنا لا أرى أي أثر لما يسميه هؤلاء مشكلة الطائفية في سوريا. بالعكس أعتقد أن الأزمة السورية أثبتت أن المجتمع السوري مجتمع محصن من الاختراق على أساس الحدود الطائفية أو الدينية أو العرقية. أنا أعتقد أن من الطبيعي أن يعتقد أي شخص اعتقادا مختلفا عن الآخرين، وأن يكون أي شخص فكرته الخاصة عن العالم وعن التاريخ البعيد أو القريب، ولذلك فأنا لا أعتقد أن خلاف ديني أو عقائدي يشكل مشكلة في المجتمع. بالعكس المشكلة بالنسبة لي هي عدم وجود اختلافات بين الأفراد. الاختلافات والخلافات موجودة بين السوريين منذ مئات السنين، وهي أمر طبيعي ويدل على حيوية المجتمع وتنوعه. ولذلك فأنا لا أرى أية مشكلة في ما يسمى تفكيرا طائفيا، أو وجهات نظر مستندة إلى الطائفية. والواقع يقول إن التفكير الطائفي موجود في المجتمع السوري منذ مئات السنين، فللطوائف السنية وجهات نظر متوافقة في الكثير من الأمور، وللطوائف العلوية وجهات نظر أخرى متوافقة فيما بينها وللطوائف الأخرى وجهات نظرها الخاصة أيضا. الخلاصة أن ما يسمى الطائفية هي أحد المكونات الأساسية لثقافة السوريين ونظرتهم إلى التاريخ وإلى هويتهم.
الطائفية بحد ذاتها لم تكن مشكلة في السابق. فكيف أصبحت مشكلة هذه الأيام بالنسبة إلى مثقفي العالم الجديد؟ هنا أيضا أنا لا أستطيع أن أرى المشكلة، فالمجتمع السوري أثبت عمليا أنه عصي على التقسيم على أساس الاختلافات الطائفية، ورغم كل القصف الإعلامي ورغم كل دفع الأموال وشراء الولاءات فضل ملايين السوريين البقاء مع اخوتهم في الوطن على البقاء مع القلة القليلة التي سيطرت على بعض المناطق في أول الأزمة. إذا كنا نعتبر أن ملايين السوريين الذين يعيشون في المناطق الآمنة في سوريا حاليا شريحة كبرى في المجتمع السوري، فهل يستطيع أحد من مثقفي العالم الجديد أن يوضح لي مشكلة الطائفية لديهم؟
ماذا عن السوريين الذين يعيشون في مناطق داعش والنصرة؟ أليست هذه التنظيمات طائفية؟ أنا لا أعتقد ذلك، فهذه التنظيمات قتلت من السوريين الآلاف على اختلاف طوائفهم. ورغم أنني لا أملك إحصائيات، فأنا أعتقد أنهم قتلوا من الطائفة التي يدعون أنهم ينتمون إليها أكثر مما قتلوا من بقية الطوائف. لو كانت داعش أو النصرة تتصرف على أساس طائفي لما كانت تقتل مئات من أفراد طائفتها دفعة واحدة ولما كانت تتحارب فيما بينها على مدى سنوات. الواقع يقول إن داعش والنصرة وبقية أشكال هذه التنظيمات ليست تنظيمات طائفية، بل هي عصابات مسلحة تقتل كل من يقف في وجهها مهما كانت طائفته. ومن يعيشون في مناطقها، مهما كانت طائفتهم، مضطرون لمهادنتها تحت تهديد القتل.
داعش والنصرة وبقية هذه العصابات نموذج متكرر للعصابات الإرهابية المتخصصة في تفتيت المجتمعات. نشأت هذه العصابات في كل الدول التي استطاعت مخططات تغيير الأنظمة أن تضعف الدولة فيها، يمكنكم أن تجدوا مثيلها لدى عصابات الكونترا في نيكاراغوا، ولدى عصابات ثوارا ليبيا ضد القذافي، ولدى عصابات ثوار اليمن ضد حكم صالح، ولدى عصابات الخونجة في الجزائر وتونس ومصر وسوريا. وتجدون مثيلا لها أيضا في عصابات المعارضة الكوبية المقيمة في أمريكا، وفي عصابات المعارضة الإيرانية. هذه عصابات لا علاقة لها بالدين أو بالسياسة، هم مجرد أشخاص مأجورين يطلب منهم تنفيذ أعمال إرهابية مقابل المال، ويقومون بذلك بدون وازع من ضميرهم. هؤلاء قتلة لا يهتمون لطائفة من يقتلونه، ولا يعنيهم إلا تنفيذ مهامهم والمبالغ التي سيحصلون عليها. الدين والطائفية آخر اهتمامات أفراد هذه العصابات.
من الذي يزعم أن هذه العصابات طائفية؟ إنه إعلام العالم الجديد عبر الضخ الإعلامي المستمر الذي يهدف لترسيخ فكرة أن الطائفية هي أكبر مشكلة في الأزمة السورية. انظروا كمية المواد الإعلامية التي يتم إنتاجها وتوزيعها يوميا لإقناعكم أن سوريا تشهد حربا طائفية. من يتابعون إعلام العالم الجديد سيعتقدون أن الطائفية مشكلة كبيرة في سوريا، وسيجهدون عقولهم في البحث عن حلول لها. أما من يعيشون مثلي في العالم الآخر، فيعرفون أن مشكلة الطائفية هي المشكلة التي يحاول إعلام العالم الجديد تأسيسها في المجتمع السوري رغما عن السوريين، ويستخدمون لذلك أحدث تقنيات الهندسة الاجتماعية، وقد فشلوا في تأسيسها فشلا ذريعا حتى بين عصاباتهم نفسها.
عندما أبحث عن مشكلة الطائفية في المجتمع السوري، لا يمكنني أن أجدها إلا في عقول من يتعرضون لسموم إعلام العالم الجديد. وهم قلة عديمة التأثير في المجتمع السوري حاليا. الملفت بالنسبة لي هو أن الحلول التي يقترحها أغلب من قرأت لهم وناقشتهم مستوحاة من تجربة محاكم التفتيش الإسبانية، وكأنهم بذلك يخدمون هدف منتجي هذه السموم عن قصد أو عن غير قصد.
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد