طور المجتمع الأمريكي في القرون الثلاثة السابقة هندسة اجتماعية متكاملة لإدارة مجتمعات العبيد. في البداية كان يتم صيد البشر واستجلابهم إلى مراكز تجميع متخصصة في تحويل الإنسان إلى عبد. في تلك المراكز يتم تجويعهم ولا يأكلون إلا برضى السيد، ويتم تعذيبهم بدون سبب ولا يتوقف التعذيب إلا برضى السيد. باختصار يتعلم العبد أن أبسط احتياجاته الأساسية تتعلق برضى السيد عنه، وأن أي سلوك لا يرضي السيد سيسبب له معاناة وتعذيبا هو في غنى عنه. وإذا بالغ العبد في إرضاء سيده فقد يزوجه السيد من عبدة بالغت في إرضاء سيدها، ويسكنهما سوية ليقوما بإنجاب عبيد صغار جدد، ويحسنا تربيتهم على طاعة السيد وعلى نمط حياة العبيد.
رغم قسوة حياة العبيد، فقد كان مجتمعهم منضبطا بشكل ذاتي، فالعبيد لا يشجعون أي أحد على أي فعل لا يوافق عليه السادة. وعندما يتجرأ عبد ما على ارتكاب أية مخالفة، فالعقوبة الصارمة ستكون درسا بليغا لتذكير جميع العبيد بقوانين مجتمع العبيد. أهم قانون في ذلك المجتمع هو أن البحث عن الحرية، أي الهرب من مجتمع العبيد، يعاقب بأقسى العقوبات، وقد تصل عقوبته إلى الموت حرقا.
رغم كل شعارات الحرية، فالمجتمعات المعاصرة تشبه مجتمع العبيد إلى حد كبير. هناك قوانين مكتوبة يمنع خرقها، ويتم تدريب المواطنين على التقيد بها منذ صغرهم. ما يسمى الحياة الكريمة في المجتمعات المعاصرة مقترن بالالتزام بالقوانين وعدم خرقها، وأي خرق للقوانين يعرض المواطن إلى عقوبات تتراوح بين الغرامات الباهظة أو السجن أو كليهما.
السيد في المجتمعات المعاصرة هو الدولة، الدولة تقرر المسموح والممنوع، وتقرر عقوبة من يرتكب الممنوع، وتنفذ العقوبة بالمخالف. وكما أن لكل سيد طبيعته ورغباته ونزواته، فلكل دولة طبيعتها ورغباتها ونزواتها. بعض الدول تبالغ في القوننة، فمثلا هناك دول لا يسمح فيها بصيد السمك بدون رخصة، وهناك دول لا يسمح فيها بالزواج أو إنجاب الأبناء بدون رخصة، وهناك دول تفرض رسوما على مجرد السير في الشارع.
وعلى شاكلة مجتمع العبيد، فالدولة تكافئ يحسن من الانصياع لرغباتها، وتقربه منها بالتدريج. وبعض المتفانين في خدمة الدولة قد يصبحون جزءا منها، ويدخلون في ما يسمى "الحكومة" فيرتفعون بذلك طبقة فوق مجتمعهم السابق، وبالتالي يكتسبون امتيازات تشبه امتيازات عبيد المنزل في مجتمع العبيد في أمريكا.
السيد يقتني عبيدا ليعملوا، ويستفيد من نتيجة عملهم، والدولة تقتني مواطنين ليعملوا ويدفعوا ضرائب، فتستفيد من نتيجة عملهم. الامتناع عن دفع الضرائب يعاقب بعقوبات مشابهة للامتناع عن العمل في مجتمع العبيد، ولا تتساهل الدول معه على الإطلاق. في بعض الدول تصل الضريبة إلى ثلث الراتب، أي أن المواطن يعمل مجانا أربعة أشهر في السنة ليدفع ضرائبه. لو كان العمل المجاني تطوعيا فهذا شأن من يتطوع له، أما أن يكون العمل مجانا لأربعة أشهر في السنة إلزاميا، فهذه عبودية حقيقية.
تبرر الدولة إلزام رعاياها بدفع الضرائب لأنها تقدم لهم خدمات. ولكن تقديم الخدمات لا يبرر إلزام الناس باستخدامها ولا بالعمل مجانا من أجل الحصول عليها. طالما كان العمل المجاني أو دفع الضرائب إلزاميا، فأي مبرر من السيد أو الدولة لا ينفي علاقة العبودية بينه وبين العبد أو المواطن.
وكما يعيش العبد حياته كلها مقتنعا بأن قدره أن يكون عبدا في خدمة السيد، يعيش المواطن حياته كلها متفانيا في المواطنة، ويعمل بكل جهده ليدفع الضرائب المفروضة عليه. لا يعرف العبد ولا المواطن أن في العالم نمطا آخر للحياة، يعيش فيه المرء بدون سيد، وبدون حكومة. لا يستطيع العبد ولا المواطن أن يتخيل حياته بشكل آخر. هل يمكنك أن تقنع مواطنا صالحا في أمريكا أو أوروبا بأن العمل مجانا وإجبارا أربعة أشهر في السنة هو عبودية؟ وأن كل شعارات الحرية والديمقراطية والمشاركة في الحكم ليست إلا تمويها لواقع عبوديته المفروضة عليه منذ ولادته وحتى مماته؟
نعم يا بدوي الجبل، نحن موتى، وشر ما ابتدع الطغيان موتى على الدروب تسيرُ.
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد