في حديث جمعني مع عدد من الأصدقاء، قال أحد الحضور أن الكتابات العلمانية أصبحت نادرة، وأن العلمانيين أصبحوا يخشون سطوة أجهزة الإعلام السلفية، فلا يجاهرون بأفكارهم حشية التكفير أو أن يصيبهم ما أصاب أبناء المدرسة الإسلامية نفسها.
ولاحظ الأصدقاء قلة الاهتمام بمواضيع كانت سابقا رائجة جدا، مثل كتابات الأستاذ فراس السواح عن الميثولوجيا ومغامرات العقل البشري، وكتابات مفكري الحقبة الماركسية التي ربما لم تعد متاحة في المكتبات. والروايات والأعمال الأدبية التي تنتقد تدخل رجال الدين في حياة الناس، وتأثيرهم عليها، وحتى الأصوات المعروفة بعلمانيتها بدأت تخفت تدريجيا في مقابل ارتفاع صوت الدين الوهابي المعتم بعمامة الإسلام والممتطي أثير الأقمار الصناعية.
سمعت تلك الآراء منصتا، وعقدت العزم على الانتباه للمقالات التي تكتب بمنطق عزل الدين والعقيدة الخاصين بكل إنسان عن نظام المجتمع. لم يحالفني الحظ كثيرا، وكل ما انتبهت إليه هو مقالات كتبت ردا على الإعلام السلفي، وكأن العلمانيين ينتظرون أن تثار المواضيع ليدلوا برأيهم.
من هذه المقالات مثلا مقالة هيفاء بيطار التي نشرتها في النهار يوم 22 شباط 2004، ومقالة محمد علي الأتاسي المنشورة في ملحق النهار الثقافي يوم 15 شباط 2004.
كتبت الدكتورة هيفاء بيطار مقالتها بعد مشاهدتها حلقة تلفزيونية بعنوان "المرأة الأخرى في حياة الرجل" حاولت فيها العديد من السيدات الحاصلات على شهادة الدكتوراه إقناع المشاهدات أن عليهن الاستسلام لحق الرجل في معاشرة امرأة أخرى، والخضوع له قدر الإمكان خشية أن ينفر منهن، واستندن في ذلك إلى آيات وأحاديث وسير وقصص وعبر وخرافات أيضا. وروت الدكتورة هيفاء بيطار بعض الآراء والفتاوى التي وزعتها مقدمات البرنامج على الأثير، وهي آراء أقرف فعلا من تكرارها.
وختمت الدكتورة مقالتها بالقول "لا نشعر ونحن نتابع هذه البرامج بأي ملمح من ملامح زواج انساني حضاري، فليس هناك احساس بالشراكة، ولا صداقة ولا تفاهم، ولا حوار، لا ألفة، ولا حنان، ولا احترام... كل ما هنالك ذكر فائر الغريزة دوماً، وانثى تحاول ان تحوّل نفسها الى غانية كي تظل محتفظة بزوجها بأفضل وسيلة: إثارته!! "
كما تروي المقالة حوارا بين الفتاة وعمها إثر نزع الحجاب فتقول "احد أعمامي الأكثر قربا مني، انزعج كثيرا ولم يعد ينام الليل، وحاول مرة أن يفاتحني بالأمر قائلا إني لا أعي أبعاد هذا القرار وتأثيراته على الناس وعلى العائلة.أجبته: أرجوك، أنا لا يهمني ما يقوله الناس وليس لهم أي علاقة بقراري لأنه قرار شخصي.أما في خصوص العائلة فهذه هي مشكلتها وليست مشكلتي."
لا أستطيع أن أنكر أهمية هذا النوع من المقالات، فهي رد مباشر وضروري على العديد من الأفكار التي تهدف إلى شل المجتمع عبر وضعه في قوالب جاهزة لا تناسب إنسانية الإنسان، ولكنني ما زلت أفتقد الفكر العلماني المبادر والذي لا يخشى المجابهة.
لقد تصدى العلمانيون في فرنسا لكل أنواع الديانات بمافيها اليهودية والمسيحية والإسلام وحتى السيخ، ونجحوا في فرض علمانية الجمهورية لتكون خيار المجتمع الفرنسي، العلمانيون هم من اختار المجابهة ردا على مظاهر تدخل الفكر الديني في التدريس والعلوم، ومنع الطلاب المسلمين من حفظ دروس علم التطور، ومنع الطالبات المسلمات من الاختلاط مع الطلاب الشباب في الرحلات والنشاطات التي تقام خارج المدرسة. اختار المجتمع الفرنسي أن يخوض المعركة حفاظا على الجيل القادم، فهو الضمان الأساسي لقيم الجمهورية التي دفع الفرنسيون دماءا غزيرة في سبيلها.
بالمقابل، يتراجع العلمانيون في بلدنا عن الكثير من مكتسبات المجتمع المدني، ويتركون الساحة فارغة للديانات المتطرفة التي تفرض على الناس أمورا لا يمكن أن يقبلها أي إنسان حر، انطلاقا من فكرة عبودية الإنسان لإله غامض متناقض الصفات تعرف عليه الرسول الأمي منذ أكثر من 1400 عاما، ووصولا إلى تدخل أتباع هذا الإله في حياة كل إنسان حتى لو لم يكن من أتباعهم أصلا، وإجباره على الالتزام بتقاليد يزعمون أنها موروثة عن الرسول الأمي منذ 14 قرنا.
أستطيع أن ألمس تغلغل الدين في حياة المجتمع السوري وعلاقاته بشكل واضح هذه الأيام، ولعل السبب الأساسي هو فقدان الثقة بالقانون السوري، فقد أصبح من المتعارف عليه أن الفساد صفة من صفات الحكومات السورية المتعاقبة منذ سنوات، والقضاة في بلدنا موظفون يسري عليهم ما يسري على غيرهم. أنا لا أريد هنا أن أتحامل على القضاة، فلا أشك أبدا أنهم فردا فردا يرغبون بتمثل قيم القضاء العليا من عدل ونزاهة وموضوعية والتزام، ولكنهم فعلا لا يستطيعون لأن قوانين بلدنا سنت بحيث يخرق المواطن القانون في حياته اليومية، وما أكثر الأمثلة على هذا. إن تطبيق القضاة للقانون يعني زج الشعب السوري في السجون، بما فيه القضاة نفسهم، ولذلك لا يستطيع القضاة تطبيق القانون دائما، ويفضلون عدم تطبيقه لأنهم أصلا غير مقتنعين بعدالته، ويعرفون الكثير من تناقضاته.
عندما يفقد المجتمع ثقته بنظامه، من الطبيعي أن يبحث عن نظام بديل، والاسلاميون كانوا دائما ينتهزون هذا النوع من الفرص، ولهم في هذا تجربة مميزة في أفغانستان الطالبانية. ومقابل فشل النظام الاجتماعي القائم، يستطيع الاسلاميون أن يقدموا للإنسان نظام مجتمع متكامل يشبع كل احتياجاته عدا العقل، فهم يقدمون له تاريخا مجيدا يستطيع أن يتغنى به، وجنة خلد يعيش من أجلها، ونظام حياة مقدس عليه أن يؤمن به دون نقاش، ويلتزم به لأنه عبادة، ولا يجوز الإخلال به. ولحل مشكلتهم مع العقل يعمدون إلى تهميشه بحجة أنه قاصر عن إدراك أسباب التناقضات التي يكشفها الحدس البديهي، أو إلى تأطيره بأطر من شاكلة "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، أو إلى إلغائه نهائيا عبر تغيير قواعد التفكير السليم في مجتمعهم، ولا ينسون أن يسيروا عليه شرطة لتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر.
وفي هذه الأثناء، يتغلغل الدين المتطرف في بلدنا، ويربي الناس على أفكار من شاكلة "الحجاب فرض من الله، وتركه معصية" أو "تارك الصلاة يستتاب، فإذا لم يتب يقطع رأسه" أو "على المسيحي أن يدفع الجزية صاغرا" أو "التشبه بالمشركين حرام" أو "كل من ليس من ملتي هو كافر، وجهاده فرض عين". وتجد تغيرا كبيرا في أمزجة الناس، فقد أصبح من الشائع تحويل المدارس المختلطة إلى مدارس مجنسة، واستبدال أغاني فيروز الصباحية بأشرطة القرآن، وتشجيع الناس على مناقشة أمور دينهم بدلا من التفكير بالمستقبل وأمور الدنيا التي لا تغني في الآخرة شيئا.
يعتمد انتشار التطرف الديني أساسا على تغيير هوية الإنسان، وتحويله من مواطن له حقوق يحفظها الدستور إلى مسلم يعبد ربه بالطريقة التي حددها الرب له منذ 14 قرنا، ويريد للمجتمع أن يعبد نفس الرب وبنفس الطريقة، بغض النظر عما يقوله الدستور، وعما يريده أي فرد آخر في المجتمع. الكثيرون من المواطنين يقبلون تغيير الهوية ببساطة، بل يرحبون به، لأن صلتهم مع مواطنتهم ممحوقة في ظل قانون الطوارئ والقوانين المتتمة له. وبالمقابل، بعضهم يقبلون الانسجام مع المجتمع القريب منهم، ولكنهم لا يرغبون بتسليم أبنائهم لجماعات غسيل الدماغ ومسح العقل المنتشرة في البلد، ولا يسلمونهم لهذه الجماعات إلا مرغمين.
تغيير الهوية بهذا الشكل أمر مألوف تاريخيا في مجتمعنا، فمنذ مئة عام كان الكثيرون يشعرون بالانتماء إلى الدولة العثمانية، وقد لعب العروبيون على وتر انهيار العلاقات الاجتماعية نتيجة الفقر والفساد والحروب، فظهر التيار العروبي الاسلامي الذي استمر في السيطرة إلى أيامنا، وهذه الأيام بدأت العروبة بالسقوط من هوية مجتمعنا نتيجة تناقضاتها الداخلية، وتناقضها مع بنية المجتمع السوري المختلطة عرقيا ودينيا، ونتيجة فشلها المزمن في تحقيق أي من أهدافها الاجتماعية، حتى بين حملة نفس الفكر (نظريا) في سورية والعراق.
أعتقد أن نهاية انتماء مجتمعنا إلى الجمهورية العربية السورية باتت قريبة، والشكل القادم لمجتمعنا بات واضحا تماما، وهو شكل إسلامي أصولي يتراوح بين الوهابية وأفكار الإخوان المسلمين بغض النظر عن المعلومات المكتوبة على بطاقة الهوية الجديدة. وربما يصبح مجتمعنا القادم قريبا من المجتمع الجزائري حاليا. حيث تستمر السلطة بالحكم بنفس الطريقة، وتتابع تغذية تناقضات المجتمع عبر سن القوانين المتناقضة التي لا تخدم المجتمع، وتتابع في الوقت نفسه اختراق الجماعات الإسلامية من الداخل، وتحريكها ضد بعضها مستفيدة من التناقضات الكبيرة في المذاهب والأديان في مجتمعنا.
وإذا سارت الأمور وفق هذا السيناريو، فلا شك أننا سنشهد هجرة الكثير من عقول بلدنا إلى الخارج، وسنشهد أيضا الكثير من مشاهد إعدام العقل من شاكلة "قطع رؤوس التماثيل في متحف دمشق" و إزالة كل أثر لحضارة سورية المسيحية التي ظهرت فجأة أمامنا خلال زيارة البابا السابقة لسورية. وسيصبح مألوفا تبادل اتهامات التكفير كما أصبح مألوفا تبادل اتهامات التخوين والعمالة حاليا.
أعتقد أن هذا هو التطور الطبيعي الذي ينتظر سورية خلال هذا القرن، وسيبقى العلمانيون بعيدين عن تحريك المجتمع بمنطق "أعط الناس ما يريدون" وذلك بانتظار أن يذوق مجتمعنا طعم الحكم السلفي المتعصب، ويكتشف قيمة المواطنة، ويصبح مستعدا لدفع ثمنها، وجاهزا للدفاع عنها كما فعل الفرنسيون.
الأيهم صالح
www.alayham.com
ولاحظ الأصدقاء قلة الاهتمام بمواضيع كانت سابقا رائجة جدا، مثل كتابات الأستاذ فراس السواح عن الميثولوجيا ومغامرات العقل البشري، وكتابات مفكري الحقبة الماركسية التي ربما لم تعد متاحة في المكتبات. والروايات والأعمال الأدبية التي تنتقد تدخل رجال الدين في حياة الناس، وتأثيرهم عليها، وحتى الأصوات المعروفة بعلمانيتها بدأت تخفت تدريجيا في مقابل ارتفاع صوت الدين الوهابي المعتم بعمامة الإسلام والممتطي أثير الأقمار الصناعية.
سمعت تلك الآراء منصتا، وعقدت العزم على الانتباه للمقالات التي تكتب بمنطق عزل الدين والعقيدة الخاصين بكل إنسان عن نظام المجتمع. لم يحالفني الحظ كثيرا، وكل ما انتبهت إليه هو مقالات كتبت ردا على الإعلام السلفي، وكأن العلمانيين ينتظرون أن تثار المواضيع ليدلوا برأيهم.
من هذه المقالات مثلا مقالة هيفاء بيطار التي نشرتها في النهار يوم 22 شباط 2004، ومقالة محمد علي الأتاسي المنشورة في ملحق النهار الثقافي يوم 15 شباط 2004.
كتبت الدكتورة هيفاء بيطار مقالتها بعد مشاهدتها حلقة تلفزيونية بعنوان "المرأة الأخرى في حياة الرجل" حاولت فيها العديد من السيدات الحاصلات على شهادة الدكتوراه إقناع المشاهدات أن عليهن الاستسلام لحق الرجل في معاشرة امرأة أخرى، والخضوع له قدر الإمكان خشية أن ينفر منهن، واستندن في ذلك إلى آيات وأحاديث وسير وقصص وعبر وخرافات أيضا. وروت الدكتورة هيفاء بيطار بعض الآراء والفتاوى التي وزعتها مقدمات البرنامج على الأثير، وهي آراء أقرف فعلا من تكرارها.
وختمت الدكتورة مقالتها بالقول "لا نشعر ونحن نتابع هذه البرامج بأي ملمح من ملامح زواج انساني حضاري، فليس هناك احساس بالشراكة، ولا صداقة ولا تفاهم، ولا حوار، لا ألفة، ولا حنان، ولا احترام... كل ما هنالك ذكر فائر الغريزة دوماً، وانثى تحاول ان تحوّل نفسها الى غانية كي تظل محتفظة بزوجها بأفضل وسيلة: إثارته!! "
وفي مقالة أخرى بعنوان "مذكرات محجبة سابقة" كتبها محمد علي الأتاسي تعليقا على حلقة تلفزيونية أخرى حول الحجاب، وروى فيها شهادة امرأة تحجبت ثم نزعت حجابها. ونقل عن الراوية وصفها لدروس الدين التي تقدمها نساء ينتمين إلى تنظيم ما للفتيات وقولها "أستطيع اليوم، التأكيد أن الأسلوب الذي يستخدمنه للوصول إلى دواخل كل منا، هو غاية في الدهاء.ومع أني كنت أعتبر نفسي ذكية، فقد استطعن أن يغسلن دماغي، وأن يقنعنني بأمور كثيرة، لم أكن أعتقد يوما أن من الممكن أن أقتنع بها، من مثل الامتناع عن مصافحة الرجال وعدم سماع الموسيقى ونتف الحواجب."
كما تروي المقالة حوارا بين الفتاة وعمها إثر نزع الحجاب فتقول "احد أعمامي الأكثر قربا مني، انزعج كثيرا ولم يعد ينام الليل، وحاول مرة أن يفاتحني بالأمر قائلا إني لا أعي أبعاد هذا القرار وتأثيراته على الناس وعلى العائلة.أجبته: أرجوك، أنا لا يهمني ما يقوله الناس وليس لهم أي علاقة بقراري لأنه قرار شخصي.أما في خصوص العائلة فهذه هي مشكلتها وليست مشكلتي."
لا أستطيع أن أنكر أهمية هذا النوع من المقالات، فهي رد مباشر وضروري على العديد من الأفكار التي تهدف إلى شل المجتمع عبر وضعه في قوالب جاهزة لا تناسب إنسانية الإنسان، ولكنني ما زلت أفتقد الفكر العلماني المبادر والذي لا يخشى المجابهة.
لقد تصدى العلمانيون في فرنسا لكل أنواع الديانات بمافيها اليهودية والمسيحية والإسلام وحتى السيخ، ونجحوا في فرض علمانية الجمهورية لتكون خيار المجتمع الفرنسي، العلمانيون هم من اختار المجابهة ردا على مظاهر تدخل الفكر الديني في التدريس والعلوم، ومنع الطلاب المسلمين من حفظ دروس علم التطور، ومنع الطالبات المسلمات من الاختلاط مع الطلاب الشباب في الرحلات والنشاطات التي تقام خارج المدرسة. اختار المجتمع الفرنسي أن يخوض المعركة حفاظا على الجيل القادم، فهو الضمان الأساسي لقيم الجمهورية التي دفع الفرنسيون دماءا غزيرة في سبيلها.
بالمقابل، يتراجع العلمانيون في بلدنا عن الكثير من مكتسبات المجتمع المدني، ويتركون الساحة فارغة للديانات المتطرفة التي تفرض على الناس أمورا لا يمكن أن يقبلها أي إنسان حر، انطلاقا من فكرة عبودية الإنسان لإله غامض متناقض الصفات تعرف عليه الرسول الأمي منذ أكثر من 1400 عاما، ووصولا إلى تدخل أتباع هذا الإله في حياة كل إنسان حتى لو لم يكن من أتباعهم أصلا، وإجباره على الالتزام بتقاليد يزعمون أنها موروثة عن الرسول الأمي منذ 14 قرنا.
أستطيع أن ألمس تغلغل الدين في حياة المجتمع السوري وعلاقاته بشكل واضح هذه الأيام، ولعل السبب الأساسي هو فقدان الثقة بالقانون السوري، فقد أصبح من المتعارف عليه أن الفساد صفة من صفات الحكومات السورية المتعاقبة منذ سنوات، والقضاة في بلدنا موظفون يسري عليهم ما يسري على غيرهم. أنا لا أريد هنا أن أتحامل على القضاة، فلا أشك أبدا أنهم فردا فردا يرغبون بتمثل قيم القضاء العليا من عدل ونزاهة وموضوعية والتزام، ولكنهم فعلا لا يستطيعون لأن قوانين بلدنا سنت بحيث يخرق المواطن القانون في حياته اليومية، وما أكثر الأمثلة على هذا. إن تطبيق القضاة للقانون يعني زج الشعب السوري في السجون، بما فيه القضاة نفسهم، ولذلك لا يستطيع القضاة تطبيق القانون دائما، ويفضلون عدم تطبيقه لأنهم أصلا غير مقتنعين بعدالته، ويعرفون الكثير من تناقضاته.
عندما يفقد المجتمع ثقته بنظامه، من الطبيعي أن يبحث عن نظام بديل، والاسلاميون كانوا دائما ينتهزون هذا النوع من الفرص، ولهم في هذا تجربة مميزة في أفغانستان الطالبانية. ومقابل فشل النظام الاجتماعي القائم، يستطيع الاسلاميون أن يقدموا للإنسان نظام مجتمع متكامل يشبع كل احتياجاته عدا العقل، فهم يقدمون له تاريخا مجيدا يستطيع أن يتغنى به، وجنة خلد يعيش من أجلها، ونظام حياة مقدس عليه أن يؤمن به دون نقاش، ويلتزم به لأنه عبادة، ولا يجوز الإخلال به. ولحل مشكلتهم مع العقل يعمدون إلى تهميشه بحجة أنه قاصر عن إدراك أسباب التناقضات التي يكشفها الحدس البديهي، أو إلى تأطيره بأطر من شاكلة "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، أو إلى إلغائه نهائيا عبر تغيير قواعد التفكير السليم في مجتمعهم، ولا ينسون أن يسيروا عليه شرطة لتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر.
وفي هذه الأثناء، يتغلغل الدين المتطرف في بلدنا، ويربي الناس على أفكار من شاكلة "الحجاب فرض من الله، وتركه معصية" أو "تارك الصلاة يستتاب، فإذا لم يتب يقطع رأسه" أو "على المسيحي أن يدفع الجزية صاغرا" أو "التشبه بالمشركين حرام" أو "كل من ليس من ملتي هو كافر، وجهاده فرض عين". وتجد تغيرا كبيرا في أمزجة الناس، فقد أصبح من الشائع تحويل المدارس المختلطة إلى مدارس مجنسة، واستبدال أغاني فيروز الصباحية بأشرطة القرآن، وتشجيع الناس على مناقشة أمور دينهم بدلا من التفكير بالمستقبل وأمور الدنيا التي لا تغني في الآخرة شيئا.
يعتمد انتشار التطرف الديني أساسا على تغيير هوية الإنسان، وتحويله من مواطن له حقوق يحفظها الدستور إلى مسلم يعبد ربه بالطريقة التي حددها الرب له منذ 14 قرنا، ويريد للمجتمع أن يعبد نفس الرب وبنفس الطريقة، بغض النظر عما يقوله الدستور، وعما يريده أي فرد آخر في المجتمع. الكثيرون من المواطنين يقبلون تغيير الهوية ببساطة، بل يرحبون به، لأن صلتهم مع مواطنتهم ممحوقة في ظل قانون الطوارئ والقوانين المتتمة له. وبالمقابل، بعضهم يقبلون الانسجام مع المجتمع القريب منهم، ولكنهم لا يرغبون بتسليم أبنائهم لجماعات غسيل الدماغ ومسح العقل المنتشرة في البلد، ولا يسلمونهم لهذه الجماعات إلا مرغمين.
تغيير الهوية بهذا الشكل أمر مألوف تاريخيا في مجتمعنا، فمنذ مئة عام كان الكثيرون يشعرون بالانتماء إلى الدولة العثمانية، وقد لعب العروبيون على وتر انهيار العلاقات الاجتماعية نتيجة الفقر والفساد والحروب، فظهر التيار العروبي الاسلامي الذي استمر في السيطرة إلى أيامنا، وهذه الأيام بدأت العروبة بالسقوط من هوية مجتمعنا نتيجة تناقضاتها الداخلية، وتناقضها مع بنية المجتمع السوري المختلطة عرقيا ودينيا، ونتيجة فشلها المزمن في تحقيق أي من أهدافها الاجتماعية، حتى بين حملة نفس الفكر (نظريا) في سورية والعراق.
أعتقد أن نهاية انتماء مجتمعنا إلى الجمهورية العربية السورية باتت قريبة، والشكل القادم لمجتمعنا بات واضحا تماما، وهو شكل إسلامي أصولي يتراوح بين الوهابية وأفكار الإخوان المسلمين بغض النظر عن المعلومات المكتوبة على بطاقة الهوية الجديدة. وربما يصبح مجتمعنا القادم قريبا من المجتمع الجزائري حاليا. حيث تستمر السلطة بالحكم بنفس الطريقة، وتتابع تغذية تناقضات المجتمع عبر سن القوانين المتناقضة التي لا تخدم المجتمع، وتتابع في الوقت نفسه اختراق الجماعات الإسلامية من الداخل، وتحريكها ضد بعضها مستفيدة من التناقضات الكبيرة في المذاهب والأديان في مجتمعنا.
وإذا سارت الأمور وفق هذا السيناريو، فلا شك أننا سنشهد هجرة الكثير من عقول بلدنا إلى الخارج، وسنشهد أيضا الكثير من مشاهد إعدام العقل من شاكلة "قطع رؤوس التماثيل في متحف دمشق" و إزالة كل أثر لحضارة سورية المسيحية التي ظهرت فجأة أمامنا خلال زيارة البابا السابقة لسورية. وسيصبح مألوفا تبادل اتهامات التكفير كما أصبح مألوفا تبادل اتهامات التخوين والعمالة حاليا.
أعتقد أن هذا هو التطور الطبيعي الذي ينتظر سورية خلال هذا القرن، وسيبقى العلمانيون بعيدين عن تحريك المجتمع بمنطق "أعط الناس ما يريدون" وذلك بانتظار أن يذوق مجتمعنا طعم الحكم السلفي المتعصب، ويكتشف قيمة المواطنة، ويصبح مستعدا لدفع ثمنها، وجاهزا للدفاع عنها كما فعل الفرنسيون.
الأيهم صالح
www.alayham.com
التعليقات
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
Re: نص مقالة هيفاء بيطار نقلا عن موقع النهار على الإنترنت
مقالة محمد على الأتاسي المذكورة أعلاه
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
Re: أصوات علمانية وسط الضجيج الأصولي
إضافة تعليق جديد